زملاء

ممحاة الذاكرة العلم يريح الإنسان من أثقال حياته الماضية

  • ممحاة الذاكرة العلم يريح الإنسان من أثقال حياته الماضية
  • الباحثون يكشفون عن أن الذاكرة البشرية شديدة الليونة تكتب فيها الذكريات وتعاد كتابتها، لا من قبل صاحبها فقط، بل من قبل آخرين.

إسطنبول – فجّر فيلم “قراصنة الذاكرة” الذي عرضته قناة “بي بي إس″، ضمن سلسلة نوفا الوثائقية قنبلة في أوساط الجمهور، الذي أذهلته النتائج العلمية حول قدرة الباحثين على التلاعب بذاكرة الإنسان. فقد تم وضع جميع من تابع دقائقه الـ53 أمام حقيقة إمكانية التحكم بكل ما تكتنزه ذاكرة الإنسان من تفاصيل، واللعب على معطياتها، وتغييرها بحسب أهداف محددة من قبل أصحابها، أو من قبل طرف آخر يريد خلق معطيات جديدة فيها، أو تغييرها بشكل كلي.
وبحسب منتجي الفيلم فإنه “طوال فترة طويلة من تاريخ البشرية كانت الذاكرة ينظر إليها كمسجل شرائط يسجل بأمانة المعلومات ويعيد تشغيلها سليمة. لكنّ الباحثين الآن اكتشفوا أن الذاكرة شديدة الليونة. تكتب فيها الذكريات وتعاد كتابتها، لا من قبل صاحبها فقط، بل من قبل آخرين. وقد اكتشفنا الآليات الدقيقة التي يمكن أن تفسّر، بل حتى أن تسيطر على ذكرياتنا”.

زراعة الذكريات

عرض الفيلم الذي قرصنته بدورها مواقع كثيرة على شبكة الإنترنت، نماذج عدة لأشخاص استطاع العلماء التدخل في ذاكرتهم، فقد تمكنت عالمة النفس ميرل كيندت في جامعة أمستردام من علاج مرضى مصابين برهاب العناكب، من خلال دواء يمكن استخدامه لإزالة التداعيات السلبية لبعض الذكريات. وفي جهة معاكسة قامت جوليا شو أستاذة علم النفس بجامعة لاندن ساوث بانك، بتصميم جهازٍ لزراعة الذكريات السيئة، استطاعت من خلاله إقناع بعض الخاضعين للتجارب، أنهم ارتكبوا جرائم في السابق، على الرغم من أنهم لم يقوموا بذلك في الواقع.

إنها نتائج خارقة، تحيل الجمهور فعلاً إلى كمٍ هائل من الأفلام السينمائية التي بنيت في حبكاتها على إمكانية جهات ما على التلاعب بذاكرة بعض البشر. ولكن ما كان يصنف في ثيمات السينما على أنه “خيال علمي” بات أمراً واقعياً، يمكن أن يفيد البشرية في الكثير من المسائل الطبية، ولكنه بالمقابل قد يضع العلم أما السؤال المستمر حول العلاقة بينه وبين الأخلاق.ولكن هل كانت هذه النتائج مخفية عن المتابعين كي تصدمهم بهذا الشكل؟ أم إن ذاكرة القراء تحتاج فعلاً إلى علاجات قاسية كي تتذكر؟

علوم الذاكرة

شُغل الناس دائماً بذاكرتهم، فقد عانى الجميع ومازالوا من أعراض النسيان. وبينما يطالب البعض بتوفير أفضل أنواع الأدوية والعقاقير التي تجعل ذاكرتهم نشطة، كان البعض الآخر يستكين إلى قدرة النسيان على جعل حياتهم أفضل، حين يساعدهم في تجاوز الأوقات الصعبة التي مرّوا بها بسبب فقدان أعزاء غادروهم بسبب الموت، أو بسبب حوادث مؤذية خلفت لديهم ذكرياتٍ مؤلمة.

فيلم (قراصنة الذاكرة) الذي عرضته قناة (بي بي إس)، ضمن سلسلة نوفا الوثائقية يظهر أن الأدوية قد بدأت تفعل فعلها في ضبط الذاكرة الإنسانية وزرع ذكريات جميلة لم تحدث ومحو ذكريات مؤلمة حدثت
الذاكرة من الناحية العلمية هي “جزء من العقل موجود لدى كافة الكائنات الحية”، يتولى تخزين تفاصيل ترتبط بحياة هذه المخلوقات. فالحيوانات تخزّن في ذاكرتها المعلومات التي تساعدها في البقاء على قيد الحياة، والإفلات من الأخطار التي تهددها. وبالنسبة إلى الإنسان فإن ذاكرته هي “مستودع لكل الانطباعات والتجارب التي اكتسبها عن طريق العلم الخارجي أو عن طريق الحواس، وهي انطباعات توجد على شكل صور ذهنية وترتبط معها أحاسيس ومشاعر سواء كانت سارة أو غير سارة”.

لقد سعى العلماء دوماً إلى التوغل عميقاً في دراسة طبيعة الذاكرة ووظائفها وأنواعها. فأنجزوا الكثير من الدراسات التي تركزت بشكلٍ رئيسي حول توصيف عمل الذاكرة، وضمن هذا المسار جرى تحديد انقسامها إلى جزأين؛ الذاكرة قصيرة المدى، أي “تلك التي تقوم بتخزين المعلومات لفترة زمنية قصيرة ثم تختفي وتنحذف من الذاكرة. ولذلك هناك من يطلق عليها، الذاكرة اللحظية أو الذاكرة المؤقتة”. والذاكرة طويلة المدى، وهي التي “تقوم بتخزين المعلومات لفترة زمنية طويلة مثل المعلومات التي تعرفها عن الأهل والأصدقاء أو المعلومات التي درستها في المدرسة أو الجامعة فهذه المعلومات وما شابها تستقر في الذاكرة لفترات طويلة”.

غير أن السؤال الذي ظل يراود العلماء طويلاً، كان يتمحور حول فهم آليات عمل الذاكرة الإنسانية. وقد سجلت في التاريخ العلمي لحظات مهمة تتعلق بالاكتشافات الخاصة في هذا المجال. فقبل عشر سنوات من الآن، وضمن مسار تطور الأبحاث الجينية تمكن باحثون في جامعتي زيورخ السويسرية وفونكس الأميركية من التعرف على الجين “كيبرا” المسؤول عن ذاكرة الإنسان، الذي لا يرتبط بأدائها فقط، بل إنه يتحول إلى منطقة في المخ معروفة باسم “غرين آمون” تتولى تخزين الذكريات الحديثة ولا سيما تلك المتعلقة بعملية التعلم والانفعالات.

وبعد تجارب طويلة قامت على دراسة عيّنة شملت حوالي ألف شخص من مختلف الأعمار، تبين للعلماء أن هذا الجين “هو المحرك الذي يقود عملية الذاكرة. فإذا أصيب بضرر أو خلل، فسيؤدي ذلك للتأثير على قدرة الشخص على التذكر”.

حدد أندرياس باباسوتيروبولوس الأستاذ في قسم الأمراض النفسية بجامعة زيورخ في تصريح تناقلته وسائل الإعلام آنذاك، الهدف من هذه الدراسة على أنه التعرف على العمليات البيولوجية الأساسية في أداء ذاكرة الإنسان، وبما يسمح باستخدام النتائج في “تطوير العقاقير التي تعمل على تحسن وظيفة الذاكرة لدى مرضى الاضطرابات النفسية والاكتئاب والقلق، الذين يعانون من خلل في الاحتفاظ بالمعلومات الهامة والأساسية”. غير أن هذه النتائج أتاحت في جانب آخر لا يقل أهمية عمّا سبقه للعلماء “التعرف على آليات احتفاظ المخ ببعض الأحداث الخاصة، مثل انفعالات الحزن أو السعادة، وبينما تمر الأحداث العادية دون أن تترك بصماتها في الذاكرة”.

الباحثون الآن يكشفون عن أن الذاكرة البشرية شديدة الليونة. تكتب فيها الذكريات وتعاد كتابتها، لا من قبل صاحبها فقط، بل من قبل آخرين (الصورة من فيلم قراصنة الذاكرة).

ممحاة الذاكرة

لم يمض وقت طويل على ظهور هذه النتائج حتى بدأت تظهر للعلن أخبار أخرى، ابتعدت عن الغاية الطبية المحددة في حل مشاكل النسيان عن طريق الأدوية، وذهبت إلى غايات أكثر إبهاراً. ففي العام 2009 تناقلت صحف بريطانية أخباراً عن تطوير العلماء السويسريين لدواء يمحو الذكريات الحزينة والمحرجة، أثبت فعاليته على الحيوانات. فقد ساهم في تلاشي الحاجز حول اللوزة في الدماغ، وهو عضو يتشاركه كل من البشر والحيوانات، يقع داخل الفص الصدغي من المخ أمام الحصين.

ويقوم هذا العضو لدى الإنسان بوظيفة إدراك وتقييم العواطف والمدارك الحسية والاستجابات السلوكية المرتبطة بالخوف والقلق ومراقبة ورود أيّ إشارات خطر تنقل من الحواس، وقد أثبتت التجارب التي أجريت على الحيوانات أنها تتوقف عن الخوف من الأصوات المرتبطة بالصدمات الكهربائية، ما يشير إلى أن الذكريات قد محيت. الأمر الذي دفع العلماء إلى التأكيد على فعالية هذا الدواء عند المرضى. وأشاروا إلى أن هذه الوسيلة العلاجية الجديدة تساهم في تخليص الناس من الذكريات الحزينة والمحرجة، مثل التعرض للإساءة في الصغر أو انتهاء علاقة عاطفية، كما أنها تساعد الجنود على التخلص من ذكريات الحرب القاسية.

في العام 2011 أفادت دراسة أميركية بأن حذف الذكريات السيئة من ذاكرة الإنسان بات ممكن التحقق. حيث قال البروفيسور ديفيد جلانزمان كبير معدّي الدراسة، من جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلس، “أعتقد أننا سنتمكنّ من تغيير الذكريات يوماً ما من أجل تخفيف الصدمة في الدماغ”. فبعد تجارب على دماغ الحلزون، وصل جلانزمان وزملاؤه إلى نتائج تقول بأن التعامل مع الأعصاب في دماغ الحلزون قد يؤدي في النهاية إلى المساعدة في علاج الخلل الإجهادي ما بعد الصدمة، وربما مرض الزهايمر وغيرها من أمراض الذاكرة. وأشاروا إلى أن عملية التذكّر لدى الحلزون تتشابه مع عملية التذكّر لدى الثدييات، فعندما يتعرض الحلزون لهجوم من حيوان مفترس تخزّن ذاكرته الأمر كنوع من عملية التعلّم التي تضمن بقاءه.

ومنذ العام 2011 وحتى الآن يبدو أن مياهاً كثيرة قد جرت على صعيد تصنيع الأدوية، التي عمل العلماء على إيجادها، في سبيل معالجة العديد من المشاكل التي تعاني منها ذاكرة الإنسان، وبحسب فيلم “قراصنة الذاكرة” فإن هذه الأدوية بدأت تفعل فعلها، ولكن هل تمّ ضبط أبحاث الذاكرة ضمن هذا المسار الذي لا يتعارض مع الأخلاق، وأيضاً مع القوانين التي تحرّم على العلماء التلاعب بالكينونة الإنسانية؟

الأخلاق والذاكرة

من الجلي والواضح أن البحث في علم الذاكرة البشرية لم يتوقف عند العتبة الطبية. وبحسب الفيلم الذي قدم بعض النتائج للجمهور وبما يشبه بالونات الاختبار، وذلك لدراسة ردود الفعل على ما يمكن للعلم أن يفعله بكينونة الذاكرة الإنسانية، فإنه من الممكن أن يقوم أحد ما يتمتع بالقدرات العلمية المطلوبة، بإجراء مداخلة سريرية، مع إنسان ما، ليجعل منه ومن خلال ذاكرته شخصاً آخر.

البعض يطالب بتوفير أفضل أنواع الأدوية والعقاقير التي تجعل ذاكرتهم نشطة، إلا أن البعض الآخر يستكين إلى قدرة النسيان على جعل حياتهم أفضل، حين يساعدهم في تجاوز الأوقات الصعبة التي مروا بها
وقد حدث هذا فعلاً، في التجارب التي عرضها الفيلم، ما جعل الكثيرين يستعيدون السؤال الأزلي حول المسموح والممنوع أخلاقياً في العلم. ولتستعاد معه كل التفاصيل التي أثارتها تجارب الاستنساخ. فإذا كانت الدول المتقدمة قد قامت بتشريع قوانين ونظم قيدت هذه التجارب، وبما يمنع العلماء من إعادة تطبيقها على الإنسان في سبيل تحريم الاستنساخ البشري، فإن المعطيات حول موضوع الذاكرة ستؤدي حكماً إلى خلق تشريعات إضافية، تحمي الإنسان من محاولات البعض بالتلاعب بذاكرته، ولكن هل ستحمي القوانين الذاكرة الإنسانية بشكل عام وأوسع ممّن يحاولون العبث بها وفيها؟

هنا يمكن الخوض كثيراً في العديد من الآراء ووجهات النظر. ولكن من الحريّ بالمهتمين التوقف عند وجهة نظر تحاول قراءة المسألة من زاوية تشدد على ضرورة احترام الإنسان بذاته وبكل ما فيه. فتشجيع العلم على إيجاد الحلول والأدوية للأمراض التي تفتك بالبشر، لا يجب أن يشجّع على العبث بالذاكرة الطبيعية التي تتراكم فيها التفاصيل. فتصبح جزءاً من الإثراء الإنساني الذي يصنعه البشر أنفسهم. فالحزن والسعادة كميزتين إنسانيتين، ورغم كونهما أحاسيس فردية إلا أنهما ينتقلان من خلال آليات التواصل الطبيعية، ليشكلا تفاصيل تؤكد على الذاكرة العامة. وبالتأكيد فإن تخليص الإنسان من الحزن قد يسهم في التخفيف من حوادث الوفاة التي يتسبب بها لدى الأشخاص الذين يعانون من تبعات تفاقم المشاعر السلبية. إلا أنه تمكن المراهنة على قدرات الإنسان الذاتية في أن ينسى آلامه وأن يتجاوزها، كما يمكن دفع حواسه وقدراته الذهنية باتجاه معالجة الأسباب المؤدية لهذا الحزن.

وقبل كل هذا وذاك، كيف يمكن القبول بحبوب أدوية تمحو الذكريات السيئة والحزن من ذاكرة البشر، دون أن يتوقف اضطهاد البشر للبشر، والذي يمكن اعتباره منبع كل الذكريات السيئة لديهم سواء كانوا أفراداً أم جماعات؟

العرب : علي سفر

اظهر المزيد

نشــــطاء الـرأي

نشــــــــطاء الـــرأي : كيان رمزي وخط إنساني لحرية الإنتقاد الثقافي و الفكري والسياسي ، بدعم مالي مستقل Organization for peace and liberty – OPL : www.opl-now.org

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب
إغلاق
إغلاق