زملاء

هِبَة عِز الدِّين:كأنما هناك ثمة قطة مغتصبة

مضى الوقت وكأنه عمر بأكمله فقد تغير كل شي وأصبحت إيمّا لاجئة كأفضل مايقال عنها. كان كرسي الخشب غير المتماسك، يهتز تحت إيمّا وتشعر أنها ستهوي من فوقه بعد لحظات لتركن بحضن رجلٍ آخرٍ يجلس خلف طاولة مجاورة. إرتعدت قليلاً وشعرت بأن قشعريرةً ما سرت بجسدها كله، وتسللت لأنفها رائحة القبو العاتم النتن بفرع فلسطين، ومحقق يناديها بعرعورية عاهرة. كانت تود وقتها أن تخبره ألا يكرر هذه الكلمة، بل أن يقول عوضاً عنها ” عاملة جنس”، فقد دافعت عن حقوق المرأة وهذا المصطلح بالذات حتى وصلت إلى هنا. تحشررائحة الشاي بيد النادل نفسها بين كل أكوام العفن… تفضلي الشاي مدام، يضع شابُ حليقٌ الشاي بكل هدوء، ويهم بالابتعاد عن الطاولة.
– أنا لست مدام، أنا مازلت آنسة، كيف لكَ ياهذا أن تناديني بذلك؟
كان دوي الخبطة التي أصدرتها كفُ أيمّا لدى ارتطامها بالطاولة، كفيلٌ أن يطيّر أعقاب سجائر زائر سابق والرماد المتبقي في المنفضة، ارتفعت جميعها قليلاً ثم بدأت تتناثر هنا وهناك دونما إتساق، لتتساقط فوق رؤوس النملات اللا تي تسرن بنظام منضم نحو كأس الشاي. لذّةُ المشهد، خطفتْ عيني أيمّا وعقلها، ونست تماماً ماكانت تقوله للنادل.
ترشفُ إيمّا الشايَ المتبقي، وتنظرُ للشارع المقابل فتأتي من بعيد رائحة عطرٍ مميزّة، تننقلك لعالم أبيض آخر قبلَ أن تعرف ماركته، لقد أتت تلك الصديقة بعد طول انتظار. ترتبك إيمّا من حسنِ هذه السيّدة التي لم ترها منذ زمن سوى ببعض صورها الشخصية على صفحة الفيسبوك، تقفُ، وتمسح يدها اليمنى بمئزرها قبل أن تصافح السيّدة.
– كيف حالكُ إيمّا؟ مضى زمنٌ منذ آخر مرّة التقينا ببكداش بسوق الحميديّة…منذ خمس سنوات تماماً.
– أنا بخير الحمد لله. تخرجُ الكلمات من ثغر إيمّا اليابس كمن يتناول الريتان لتخفيف حب الشباب.
تخرجُ السيّدة من حقيبتها، علبة سجائر ” كِنت “ أنيقة، وتدسُ أناملها بحثاً عن ولاعة… لا بدّ أنّي نسيتها في السيّارة، ياربي لا أريدُ أن أمشي كل تلك المسافة لأصل السيّارة، ألم تجد مقهى بغير هذه الأزقّة؟
– هاااه، بلى بلى يوجد، لكن … المرّة القادمة سأختار مقهى قريباً من الشارع العام.

تنظرُ السيّدة للطاولة المجاورة وتطلب من ذاك الرجل ولّاعة، يناولها الرجلُ إياها بيده اليسرى، بينما يده اليمنى منشغلة بتمشيط شعره الطويل، والسيجارة تنحشر بثغره، كما يحشرُ جنودُ الأسدِ البوط العسكري بأفواه المعتقلين، وكذلك يفعلُ الثوار. بعد ثوان، يسقط فتيل التبغ المحترق كقطعةٍ واحدة، فيقهقه الرجلْ ويصرخ: سقط البوط العسكري، سقطَ الأسدْ، سقط الثوار.
تحولت عيني إيمّا فجأة لدائرتين، إثر الصدمة من كلام ذاك الرجل، لكنّها قالت في نفسها: ربما هو محق، بلى هو محق. مضت نصف الساعة الأولى بأحاديثٍ عامّة عن هذه المدينة وطبيعة الأكل، والطقس، ونوعُ القطن المستخدم بالألبسة الداخلية، ثم ساد الصمت، وكأن الكلام إنتهى.

– لقد اغتصبوني طيلة تسعة أيام متتالية، كانوا ثلاثة عساكر وضابط…. أشعر بالقرفِ تجاه نفسي، لقد كنتُ أضع أحمر شفاهٍ ذاك اليوم… لم أكن أعلم أن الضابط المناوب سيراني، لكنّي كنت فقط أحاولُ أن أخرجَ من ذاك القرفْ بقلم الحمرة… أنا السبب، لولا الحمرة ما كانوا اغتصبوني. نعم أنا… أي أنا السبب، لولا إثارة المرأة مااغتصبها الرجال. لكن المجتمع سافل، والله سافل، لا أحد يهتم بالمرأة المغتصبة، لا أحد يقبلُ أن يتزوجها، حتى أهلها يتبرؤون منها.
تصرخ السيّدة على الكرسي المقابل، حينما يعبر من تحت الكرسي، قطُ  ذكر يلاحق قطة… تصمت إيمّا قليلاً وكأنما هناك ثمة قطة مغتصبة.

– لا أحد ينجو من الاغتصاب في هذا البلد ياربي حتى القطط.
يقاطع صوت إيمّا صوت الرجل صاحب الولّاعة.
– ولا حتى الرجال. حتى الرجال يغتصبون في بلدك ياسيدتي، ومن قبَل الجميع، نعم الجميع، لكنّ الطامّة الكبرى، أنكِ تستطيعين أن تروي لصديقتك أنك مغتصبة، هل سمعت رجلاً روى لأحدٍ أنّه مغتَصبْ.
يقفُ الرجل، يرفعُ بنطاله، يعدّل قميصه، يقترب من الطاولة، يحملُ ولّاعة السجائر، يخرجُ من باب المقهى، وهو يقهقه ساخراً، ويقول:
– لتسعد القطط أنها تستطيع أن تخبر بموائها أنها تغتصب!

نشــــــــــــــطاء الــرأي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق