ياسين الحاج صالح.. حكيم الثورة السورية

وجاء في تقرير الجائزة الهولندية أن “ياسين الحاج صالح كاتب ومفكر سوري اعتبر صوت العقل خلال الأزمة السورية الحالية، وتعتبر آراؤه صوتا أساسيا في ما يتعلق بالسياسة والمجتمع والقضايا الثقافية في سوريا والعالم العربي في علاقاتها مع تطورات الوضع السياسي على الساحة العالمية..”.
ومن المعروف عن جائزة الأمير كلاوس أنها تُمنح للإنجازات المهمة في مجال الثقافة والتنمية، وتدعم الفنانين والمفكرين النقديين والمنظمات الثقافية في البلاد التي تعاني نقصا في فرص حرية الرأي والتعبير لأسباب الصراعات والفقر والقمع والتهميش.
وقد راج بين السوريين وصف الحاج صالح بحكيم الثورة السورية، وهذا الوصف ملعوب به لغويا ويتضمن دلالتين، الأولى، لفظة حكيم تقال بالعامية للطبيب، إذ درس ياسين في كلية الطب بجامعة حلب واعتقل فيها عام 1980 وهو في السنة الثالثة، والدلالة الثانية وهي الحكمة ذاتها، إذ لعب ياسين دور الكاتب الرصين والحكيم في كتاباته عن الثورة ومواقفه منها.
المفارقة الطريفة، أن الحاج صالح من المفترض أن يسافر إلى هولندا في ديسمبر/كانون الأول القادم لاستلام الجائزة، إلا أنه متوار عن الأنظار ويستحيل سفره، وهو لا يحمل جواز سفر، ولم يغادر سوريا من قبل إلا إلى لبنان، حيث كتب عنه صديقه الطبيب عساف العساف “لم يغادر ياسين الحاج صالح سوريا إلا مرة واحدة وكانت إلى لبنان. يومها ذكر الأصدقاء أنه ما أن عبرت السيارة الحدود لم يرفع ياسين نظره من على زجاج النافذة (غير مصدق) كطفل صغير يرى مراجيح العيد لأول مرة”.
خط ثقافي وسياسي
وفي أحد حواراته الصحفية التي نشرها في آخر كتابه “بالخلاص يا شباب” يقول ياسين عن فكرة السفر إلى الغرب “تبدّى لي بوضوح أن تناولي النقدي للشؤون السورية بينما أنا في البلد قيمة بحد ذاته. ليست مسألة مكان ولا عقيدة وطنية، بل شرطا للإنتاجية والدور المرغوب فيه. صحيح أنه اقترن بعدم أمان دائم ومؤلم، لكنني كنت على وعي بأني لن أستطيع وأنا في أربعينيات عمري أن أعيش في الغرب”.
منح الجائزة لياسين الحاج صالح حمل معاني كثيرة بالنسبة للسوريين، الذين شعر أغلبهم بالإنصاف، وكأن الجائزة منحت لهم، باعتبارها تكريما لسوريا الثورة، وسوريا المتطلعة إلى الحرية، من خلال شخص هذا الكاتب المناضل.
من ناحية أخرى اعتبر بعض المثقفين، وأولهم اللبناني إيلي عبده، أن هذه الجائزة هي انتصار لوجه ثقافي وخط ثقافي معين ضد خط آخر، انتصار المثقف النقدي المنحاز لشعبه على المثقف النخبوي المتملص من شعبه.
وفرّق عبده بين مثقف يسعى لتكريس ذاته عبر تقزيم الشعب، ومثقف يسعى إلى تكريس شعبه، حيث كتب على صفحته “أدونيس كان يحصل في كل سنة على جائزة أو أكثر. العالم كان يهلل له فهو الشاعر العظيم الآتي من بلاد شعبها متخلف وجاهل. أدونيس شوّه صورة الشعب السوري ليجمّل صورته، وقد انطلت الخدعة على العالم. اليوم يحصل ياسين الحاج صالح على جائزة ثقافية رفيعة ليشكّل النقيض من حالة أدونيس. مثقف مؤمن بشعبه، صورته من صورته، نضاله من نضاله..”.
ويضيف عبده أن “العالم أدرك اليوم حيّل أدونيس، والعلاقات العامة وشعارات الحداثة والتقدّم وتفجير اللغة لم تعد تجدي. ثمة متظاهرين في دوما بينهم يقف ياسين الحاج صالح، نحوه تتجه الأنظار”. هذه السطور التي خطها إيلي عبده، تداولها بعض السوريين على صفحاتهم، مضيفين عبارات من نوع “وأنا أؤيد هذا الكلام، وأنا أتفق مع هذا، وهذا موقفي أيضاً…”.
تاريخ نضالي
يكاد الحاج صالح يكون محل إجماع السوريين وبعض المثقفين العرب، رغم الاختلاف معه أحيانا، والاختلاف حالة صحية، حين لا يكون اختلافا على الأساسيات، بل على التفاصيل. ومردّ هذا الإجماع نقطتان أساسيتان، أولاهما، أن تاريخ ياسين النضالي والفكري معا واضح كالشمس، إذ لا أحد يشكك في مصداقية ياسين، اللهم إلا بعض الأقلام والشخصيات التي تحيل كل مطالبة بالحرية والتغيير إلى فكر المؤامرة الخارجية.
أما النقطة الثانية، فهي شخصية ياسين ذاتها، حيث لا يتمتع هذا الرجل بأي سلوك نرجسي قد يخلق له عداوات من أبناء “الكار” أو من غيرهم، وإن كانت النرجسية حقا مشروعاً للكاتب، إلا أن انخراط ياسين في العمل الجماعي والسياسي، الذي غلب على طريقة عيشه أدى إلى عدم ظهور النرجسية بسهولة.
وهذا أيضا مردّه إلى إما أنه فعلا غير نرجسي وقد تمكّن من “قمع” النرجسية بداخله، وإما أنه من الذكاء والحكمة -كحكيم يستحق هذا الوصف- بحيث استطاع إخفاء نرجسيته لإظهار الآخر مكانه، وربما هذا آتٍ أيضاً من ثقافة السجن، التي يتحدث عنها ياسين في كتاب شديد الأهمية الصادر مؤخراً عن دار الساقي “بالخلاص يا شباب، 16 عاماً في السجون السورية”.
ويتحدث الحاج صالح عن “ترويض الوحش” داخل السجن، في فصل سمّاه “في السجن تحررتُ، في السجن كانت ثورتي” قائلا “لقد كان السجن في مجمله تجربة انعتاق حقيقية. انعتاق عبر الصراع مع السجن ومع النفس ومع الغير، وعبر التعلم من الرفاق ومن الكتب”.
“بالخلاص يا شباب” هو مصطلح يستعمل في سوريا خاصة في مناسبتين، لم يكن ياسين يعرف إلا الاستعمال الأول لها، في السجن حيث الخلاص هو الخروج من السجن، والمناسبة الثانية، التي ربما لا تعرف أغلب النساء اللواتي تستعملنها أيضا باستعمالها في المعتقلات، حيث تُقال للمرأة الحامل لولادة خالصة من الموت، الأمر الذي يلفت النظر بشدة إلى العلاقة الجمالية المدهشة بين الولادة والخروج من السجن.