في 7 أيار الجاري و8 منه خرج مئات من مقاتلي المعارضة المسلحة المعتصمين في بعض حارات حمص الداخلية منذ نحو السنتين، الى حافلات نقلتهم الى بلدات الدار الكبيرة وتلبيسة والرستن وتيرمعلة «الحرة»، على نحو 30 كلم الى الشمال من حمص. والمقاتلون الجالون عن متاريسهم وخنادقهم في احشاء حمص وثناياها المنيعة مروا بقوات النظام، وركبوا الحافلات، وسلاحهم الخفيف يتدلى من كتفهم، وأشرف على انسحابهم وسيط من الامم المتحدة. فغادروا البلد المحاصر والجائع والمقفر وغير الآمن الى بلاد «آمنة»، لا يخيم عليها طيف النظام الناري والقاتل. وبلغ المقاتلون غايتهم، أي البلدات والمدن القريبة، بعد وقت قليل، على الارجح، من ركوبهم سيارات النقل.
«عملة» المفاوضة
وهذا على خلاف انسحاب سابق، ومفاوضة سابقة عليه في اثناء انعقاد مفاوضات جنيف الثانية، قبل نحو 4 أشهر. فيومها وعدت إدارة بشار الاسد الامم المتحدة والهلال الاحمر السوري بعفو جزئي عمن يطلب العفو ويترك القتال، وبإجازة نقل مساعدات انسانية الى المحاصرين بحمص، وإخراج بعض الجرحى والمدنيين، في أثناء هدنة قصيرة. ولم يكد الموكب «الانساني» يبلغ أحد مداخل المدينة حتى انهمر الرصاص، وسقطت القذائف، فقتلت 5 مسعفين وجرحت العشرات. وكان تجمع نحو ثلاثمئة مسلح بموضع آخر، تخلوا عن سلاحهم وسلموه الى قوات النظام، وركبوا باصات النقل ومعهم رجال (ذكور) أعمارهم بين 15 و55 أرادوا الهرب من المجاعة والامراض والموت المداهم، فكان مصيرهم «الاختفاء»، على قول احد اعضاء الهيئة العامة السورية للثورة. فهم تولى نقلهم، وأسرهم والتحقق من هوياتهم والتحقيق معهم، بعض اهل القوة «النظاميين». ولم تحل رعاية الذمة والقول (الكلمة) بين النظاميين ومن يأتمرون بأمرهم وبين إطلاق يدهم وسلطانهم في الاسرى المستأمنين والعزل. فأُدخل هؤلاء في «قوم الليل» وطويته التي لا قرار لها.
والفرق بين المفاوضتين، وبين النتيجتين المختلفتين اللتين ادتا اليهما، مرده الى «العملة» التي قايض بها المعارضون حرية المقاتلين الجالين عن حمص المحاصرة. ففي المفاوضة على الثلاثمئة في كانون الثاني 2014، بادرت إدارة النظام الاريحي والكريم الى عفو غير مشروط إلا بطلبه والتماسه، وترك السلاح قرينةً على صدق النية والعزم. وصدَّق المحاصرون المنهكون البادرة، وليس بيدهم ما يشترون به التزام الادارة المراوغة واللئيمة عفوها المزعوم. فلم يقيد انتقامها وثأرها قيد معنوي أو مادي. وتلقفت ضحاياها بما يليق بـ»أخلاقها» وسياستها وأغراضها.
وأما مفاوضو إخلاء الألف والمئتين تقريباً الذين أُخلوا في 7و8 أيار، وحملوا سلاحهم فخرجوا مقاتلين معارضين وصامدين، كريمين وسالمين، الى غايتهم ومقصدهم، فاشتروا الإخلاء، وإلزام اهل النظام المراوغين واللئيمين به، بضمانات أكرهت المحاصرين والمتربصين على قبول حرية المقاتلين، والإقرار بكرامتهم وسلامتهم. و»عملة» شراء الحرية والكرامة والسلامة هذه المرة هي 45 رهينة من اهل النظام، فيهم أو بينهم 12 ولداً و3 نساء أسروا شمال اللاذقية في آب 2013، يوم أغارت الدولة الاسلامية في العراق والشام على بلاد العلويين، وأسرت بعضهم. وبين الرهائن جنود نظاميون يبلغ عددهم 28 جندياً فيهم ضابطان أسروا أو خطفوا في كسب. وزار اللواء ادريس، رئيس المجلس العسكري «الحر»، أطراف الشمال العلوي، وندد معارضون بالزيارة.
السوق بعد العملة
وفي «احتياط» الشراء امرأة ايرانية أو أكثر قيل قول كثير في دورها في حمل مفاوض ايراني نافذ على المفاوضة وحسمها في غضون شهرين. وقيل ان في الضمانات والقيود على المفاوض النظامي رهائن روس. والأمر الثابت أن نظير إخلاء مقاتلي حمص الباقين، في غير حي الوعر الطرفي والمحاصر الذي يعد «مئات الآلاف» من الاهالي واللاجئين إليه، قبلت كتائب اسلامية تحاصر بلدتي نُبّل والزهراء الشيعتين بريف حلب الافراج عن بعض التموين الى أهالي البلدتين الجائعتين والخائفتين والمروعتين شأن حمص ودواخلها. وكادت المقايضة تتعثر حين أنكر بعض مسلحي حلب من جبهة النصرة، وكالة «القاعدة» الاصلية والرسمية في قيادة «الشيخ» أيمن الظواهري، مفاوضةً و»مصالحة وطنية» و»فك الحصار عن نبل والزهراء (و) هم الذين قتلونا» وتراخياً في «تحكيم الشريعة في البلاد»، على ما قال أو كتب بعض أهالي حي الشعار في حلب وشطرها المعارض.
و»عملة» المعارضة وبعض جماعاتها-وتغلب عليها كتائب وفصائل اسلامية «جهادية» وإرهابية ويقاتل بعضها بعضاً، وتحكم حيث تحكم (في ريف دير الزور ومدينة الرقة وجوار معرة النعمان على الخصوص) بالقطع والتعزيز والحدود والمحاكمات الميدانية مصدرها غارات وغزوات وسطو وتخويف وخطف. ولا تعف الغارات والغزوات لا عن النساء ولا عن الاولاد والاطفال. والمغيرون مسلحون، بديهة، ويتنقلون في عربات وسيارات، ويأكلون ويشربون، ويبيتون في معاقل أو معسكرات. وهذه كلها تقتضي تمويلاً وتمويناً باهظين. وكان مصدر التمويل والتموين والتسليح «التبرعات» الحكومية والفردية، وجَوْد الاثرياء وسخاؤهم، أم كان ثمرة «المصادرات» (في لغة… لينينية ستالينية ترطن بها جماعات متفرقة)، أي السطو والقتل والبغي، فلا بد في عمليات مثل غزوة «بلاد العلويين» في 3 آب 2013 أو مثل مداهمة كسب، وحصار نبل والزهراء واقتسام عدرا، و»حكم» حي الشعار الحلبي وأرياف دير الزور والطبقة وغيرها، من تمول وتمون وتسلح، ومصادرها هي هذه.
ولا بد من هذه الوسائل أو مثلها، ومن تحصيل عملة المقايضة والشراء التي تلزم النظام بالمفاوضة حين تسنح الفرص، إذا شاء المقاتلون أو رغبوا في الخروج من حصار مدنهم وحاراتهم الطويل والمدمر على غير شاكلة الضحايا والطرائد المنذورين للخداع والصيد والتعذيب والقتل. وجمع احتياط يعتد به من هذه العملة القيِّمة والنافذة وحدها في سوق المبادلة ورفع الحصار وإقرار الهدنة وضمان السلامة التي تساوي الاراضي الوطنية طولاً وعرضاً، يستنفد طاقات الحركات «السياسية»- العسكرية كلها، ويشغلها وقتاً كاملاً. وهو (أي جمع احتياط عملة المفاوضة الناجعة) يستغرق سياسة الحركات «السياسية» العسكرية، ويصرف السياسة كلها، من استمالة القوى وخطط تحالفاتها ومناهج عملها وبرامج العمل وغيره مثله، الى تحصيل ما يُقايض به على تخفيف الحصار عن حي هنا، أو الاقتصار على قصف جوي بالرشاشات الثقيلة بديلاً من القصف بالبراميل والخزانات 4 مرات في اليوم الواحد هناك، أو نقل بعض الجرحى والمرضى بموضع ثالث. واليوم، تفاوض بعض «كتائب» حلب النظام على الاقلاع عن القصف اليومي بالبراميل والخزانات لقاء توزيع مياه الشفة على أحياء يقيم بها موالون وأنصار النظام.
وتفترض المفاوضة على احتياط عملة المقايضة أو المبادلة وجود السوق التي تصلح اطاراً عريضاً ومشتركاً للمبادلات القادمة. وحين يقول محافظ حمص النظامي ان اتفاق حمص وأحيائها الداخلية، وهي لم يبق من أهلها فيها غير المئات، يصلح نموذجاً لمفاوضة حي الوعر الخارجي الكبير الذي يعد أربعمئة الف مقيم ونازح ومهجر، فهو يقر بوجود السوق العريضة وحقيقتها هذه، وبمرجعيتها السياسية. فمادة العلاقات والمفاوضات غير العسكرية بين الجماعات المسلحة والمتقاتلة «السورية»- و»الدولة» جماعة من هذه الجماعات، وهي سورية مختلطة ومهجنة مثلها، وربما تفوقها اختلاطاً وهجنة- هي سيطرة الجماعات بالقوة وعنوة، ومن طريق القصف والقنص والخطف والجوع والمرض وقطع الطرق والارهاب، على مناطق وسكان وموارد ومواصلات. واطار السوق هو هذه.
وزعم بعض موظفي النظام المستولي ان المفاوضة أعادت «حمص» الى «الدولة» جملة أكاذيب كبيرة وفاقعة. وليس صحيحاً، طبعاً، أن حمص كانت في عهدة أهلها حين كان بضع مئات من أهلها يلوذون بطرقها الضيقة وسراديبها وبيوتها المتصلة سطوحاً وكهوف مونة وآباراً. فهي، في كلتا الحالتين، ميدان حرب غير متكافئة.
«العمل» السياسي
وصنعت سياسات الحروب السورية الكثيرة ، الامنية والاهلية والمذهبية والاقليمية البلدية والاقليمية الدولية والاجتماعية والسياسية والايديولوجية، اطار السوق وقوانين معاملاته وأسعار صرف عملاته. فهي آذنت بالانخراط الكامل والمستميت في ارساء العلاقات السياسية «المنزلية» على الحرب والبوليس والارهاب. ودعت أهلَ السياسة، وهم «المواطنون» عموماً أو الناخبون والناخبات من غير تمييز ومن كل الجماعات الاهلية والاجتماعية، الى «حضور» سوق القتل والترهيب التي افتتحتها علناً وجهاراً، و»البيع والشراء» فيها من غير قيد أو شرط غير قيد امتلاك العملة المناسبة شرطها. وعلى المثال الذي يقضي بطرد العملة الفاسدة والمزورة العملة الجيدة والقويمة، وإخراجها من المبادلات، بادرت «الدولة» العصبية وأجهزتها وطواقمها الى إغراق المقايضة والمفاوضة السياسيتين على التشريع والقوانين والحقوق والسلطات والتمثيل وتعريف الجماعات الوطنية وعلى التوزيع والريوع والعوائد، في طوفان اعتقالات وتحقيقات وتعذيب وقمع وقتل متعمد وحصار.
فلم يبقَ من السياسة المعروفة والمفترضة، الموروثة على هذا القدر أو ذاك من الادارات الاصلاحية الاستعمارية والانتدابية الليبرالية والاستقلالية الاولى، شيء يذكر أو أثر بعد عين. وكانت هذه السياسة، على التباسها، تدعو من ينوون مباشرتها والتصدي لمشاغلها الى الاعلان عن برامجهم ومقاصدهم، وتسويغها بمصالح ورغبات وغايات يرونها عامة ومشتركة، ويقترحون طرائق وخطوات قمينة بإبلاغ الجماعات التي يتوجهون عليها بدعوتهم وجمعيتهم الغايات المشتهاة والمرسومة. وحملت العلانية والعقلانية، المضمرة في مقارنة الوسائل بالغايات واحتساب الاكلاف، اهلَ السياسة، من القواعد الى القيادات، على المنافسة على التمثيل والادارة الوطنيين والمحليين البلديين. وحملتهم على المناقشة والاحتجاج والتحالف والخصومة، وعلى الحشد والتظاهر والاضراب والاعتصام. واحتسبت الحياة السياسية، وكتلها وأحزابها وحركاتها وجماعاتها، وقتاً أو زمناً يفصل اعلاناتها عن انجازاتها المتوقعة. وعلى هذا الوقت يدور «العمل» السياسي: الاقناع والتأليب والاقتراح وعقد الاحلاف والمفاوضة على أبواب البرامج وعلى توزيع المغانم والخسائر. وهذا كله يفترض وقتاً ومساومة ونزولاً عن امور وتغييراً في ترتيبها. وشأن الدولة والحاكمين لا يختلف عن شأن المعارضين. فمن يَحْكمون عليهم المفاوضة على الاجراءات المزمعة، والسهر على تماسك الصف الحاكم والمؤتلف، وتوفير الموارد، والامتثال لمعايير اضطلعت بدور حقيقي في تعريف هوية الكتلة السياسية وولاء جمهورها وصداقة أصدقائها…
الأجهزة الخاصة
وهذه الصورة للسياسية او عنها تبدو اليوم- ويكاد يملأ «اليوم» هذا «الستين سنة» المنصرمة على قول المصريين المنتفضين في أوائل 2011 منذ استيلاء عبد الناصر وضباطه على حكم مصر، وجدده الانعطاف الفلسطيني في 1967- 1973 ونفخ فيه الولي الفقيه الخميني الايراني في العقد التاسع، واستأنفته «الجهادية» الارهابية عشية الحملة الاميركية على العراق وغداتها – تبدو حلماً زهرياً لا يمت للوقائع القاسية، مثل «ضياع» فلسطين وأنظمة أسر ملاكي الارض وغلبة الولاء والانقياد لأعيان الجماعات الاهلية على التمثيل والتوزيع والانقسامات والتبعيات الى معسكرات، بصلة. (وملاحظة دوام هذه الاحوال وتفاقم و»إغنائها» بحروب أهلية مزمنة وارتهانات لا فكاك منها وهجرات نازفة واعتيال اجتماعي وشعبي واستبداد ذريع وثقافة ركيكة، ليست، عنيت الملاحظة، من قبيل نفاد الصبر على الاجابة والمقارنة المعللتين، فهي توجب نفسها حكماً). وما لابس هذه السياسة من حوادث ووقائع قاسية ومهينة لم يكن من بناتها، ولا من نتائجها، على خلاف مزاعم «الانقلابيين» الذين تذرعوا بالملابسة والمواقتة الزمنيتين الى وصم المثال السياسي الليبرالي والمدني بالقصور والعجز والتواطؤ. وذلك على مثال أحمر (شيوعي) وأسمر (فاشي) شاع في أوروبا الثورية، يميناً ويساراً، وتبعث فيه سياسة فلاديمير بوتين العمودية الاوراسيوية و»الارثوذكسية» رمقاً لاهثاً.
والانكار والطعن العمليان على مثال سياسي يسعى في تولي أصحاب المصالح (والاهواء والتواريخ) بأنفسهم وأيديهم صنع ما يريدون ويصبون اليه، على شرط إسهام المعارضين فيه واعتبار علل معارضتهم وخصومتهم، تمثلاً أو تجسداً في منظمات حزبية طليعية وجماهيرية معاً. وقدمت هذه المنزع العملي، أو «التقويم باليد» ومباشرة الفرض والاكراه على منازع الدعوة والتحريض والاقناع والمساومة. وترجمت المنزعَ العملي المباشر فروعاً أو منظمات عسكرية سرية ألحقتها بالأمين العام التنفيذي وحده، وأخرجتها من الجسم الحزبي المشترك والعلني أو الظاهر على هذا القدر أو ذاك.
وعلى شاكلة التنظيم السري، الإخواني المصري، تولت الفروع أو المكاتب العسكرية الحزبية اغتيالات الشخصيات المؤثرة. وأردفت بجهاز الاغتيالات جهاز تأهيل حرسي حزبي، أو قوات حزبية عسكرية تعد العدة لانتفاضة وشيكة تمهد الطريق لها بواسطة اغتيالات وأعمال تخريب تقود الى حرب أهلية وربما إقليمية، ويعول على انتصار قوات الثورة فيها على الرجعية وأذناب الاستعمار وبياعي فلسطين وعملاء التروستات والثقافة الغربية الحرام (قبل «بوكو» وطالبان ومرشد الباسدران وبعدهم). وقوات الدفاع الوطني (في «الساحل السوري» وريفي دمشق وحمص) والمقاومة الاسلامية (في «أرياف» لبنان القروية والبيروتية) وألوية اليوم الموعود وعصائب اهل الحق (أبو الفضل العباس)، الى «القاعدة» ووكالاتها المحلية والحرس الثوري والمتطوعين (الايرانيين) والمنظمات الفلسطينية المسلحة، تتحدر نظراً وعملاً من منظمات حرس أو قوات خاصة ومكاتب ولدت، منذ ثلاثينات القرن الماضي، بنواح متفترقة من عالم عربي مسحور.
وَوَلدت المنظمات والمكاتب والفروع العسكرية السرية، ومن ورائها أحزاب (ثم – دول) جماهيرية حكماً، أنظمة وحركات مسلحة شعبية وأهلية تزاول السياسة أو تدبير «الدول والمجتمعات» على المثال الحرسي والقواتي الخاص والعملي، إياه. وهذا المثال لا ينتظر تبلور «الشعب الواحد والمنتصر»، على قول فيديل كاسترو أو اللواء علي سعيدي أو زميله الجنرال يحيى رحيم صفوي، ولا ولادته من حوادث تاريخية مجلية ومشتركة فعلاً وليس عدداً، فيباشر فوراً بلورته وتوليده: يستدرج الجيران الى شن حرب عليه، ويعلن التعبئة العامة ومعها طوارئ أوسع عمومية، ويعمل التصفية والتطهير في هيئات الحكم والادارة ، ويصطفي نخب أهل مناصبه، وينشئ في الاثناء هيئاته وأسلاكه وأجسامه الموازية والخاصة، ويملي قوانينه ومعاييره، ويغلق حدوده، ويقتطع أرخبيل محمياته وولاياته ومعازله من فتات الدول والاوطان والمجتمعات القريبة ويستتبعها. وفي سبيل تثبيت الاقتطاع والاستتباع ينتهج السياسة نفسها أو يؤيد المثال الذي سبقه واهتدى إليه حليفه: ينشئ قوة أهلية ومسلحة موازية، وينفخ في نزاع اهلي دامٍ، ويدمج القوة الاهلية في كيان الدولة ويلحق هذه بالقوة الاهلية…
«الدولة» ـ «المقاومة»
وعلى هذا، قامت «المقاومة»، أي منظماتها الاهلية المسلحة وأجهزة دولتها الظل والنقيض و»مجتمعها الخاص» (الشيخ سليمان ضاهر العاملي)، محل الدولة والمجتمع معاً، وقام منطقها العملي والمباشر محل «المفاوضات» العقيمة والطويلة وخوائها. فلا تقتضي مساندة «فلسطين» التظاهر، والانتداب الى مجالس التشريع والسلطة التنفيذية، وتضامن الجمهور الطوعي ونزوله عن بعض احتياجاته، وتصور الحلول الجزئية والمرحلية ثم المتكاملة، وابتكار علاقات إقليمية من صنف جديد، واختبار هذا وصيغه… وينوب عنه، وعن مطاولته، ندب مناضل مدرب أو اثنين، وسفرهما بوثيقة قيد مزورة وجواز مزور الى بلد عربي كبير ومضطرب، وفي جيبه دفتر شيكات عالي الرصيد ووكالة تجارية ملفقة تصلح ذريعة الى مخالطة الناس وانتخاب خلية من العملاء المجاهدين. ويتولى هؤلاء رصد الملاحة في قناة السويس، عسى ولعل، ومراقبة السجون وجوارها والاعداد ربما لتحرير مساجين مجاهدين أسهموا في أعمال اغتيال من قبل، وروابطهم بـ»الروافض في إيران» (أبو محمد العوناني، أحد مقدمي الدولة الاسلامية في العراق والشام) قوية.
وعلى هذه الشاكلة، لا جدوى من منافسة رجل مثل رفيق الحريري في انتخابات نيابية عامة كثيرة المداخل والمخارج، ولا تؤمن نتائجها على رغم جعل البلد مرتعاً لحركات المقاومة وأممها وفروعها وأجهزتها منذ ربع قرن. فالأيسر بما لا يقاس اغتيال الرجل وبعض انصاره وحلفائه. فهذا يعجل في شق السنة والشيعة الوطنيين. ويرفد الانقسام العراقي البطيء، ويسرع سريانه في الميدان الحيوي الذي يهيمن عليه الاميركيون وينازعهم «الجهاديون» والعروبيون السنة وقادة الحركات المهدوية والخلاصية الشيعية وراعيها الفيلقي. والاغتيال يحرر الجماعة الحرسية والخمينية المسلحة المحلية من العقد المخاتل الذي يقيدها بالدولة، وترعاه الاستخبارات السورية واستطلاعها، ويحول بين القيادة الحرسية وبين التلويح بمهاجمة الجماعة المحلية «الكيان الصهيوني»، أو الهجوم فعلاً مع ابتداء صدور قرارات مجلس الامن في الصناعة النووية العسكرية الايرانية (في 11 تموز 2006) وحصارها. وعلى هذا المنوال، ناب استعراض مسلح خاطف تولاه اصحاب القمصان السود الطاهرة من كل رجس عن تسمية كثرة نيابية رئيسَ وزراء عنيداً وعدواً. وتنوب اليوم مقاطعة نيابية متكتلة عن امتحان انتخابات رئاسية، على رغم تمديد ولاية برلمان انتخب غداة الاغتيالات المتسلسلة، وغداة الانتصار الساحق في حرب مجيدة واسطورية، وغداة استمالة الولي الماروني المنتظر الى الصف المهدوي المدجج والسخي والطاهر. والمناظرة البيانية الطويلة مع العدالة الدولية، والمحكمة الخاصة بلبنان، استحوذت على شطر ثمين من وقت وجهد وخطابة أمير الجماعة الحرسية المسلحة (- لبنان) من غير طائل غير تظهير جهل عظيم ومغرض بفقه الأدلة والتحقيق وبجغرافية بيروت. وأقرب متناولاً تهييج البذاءة الاعلامية والصحافية على المحكمة وقمعها وانتهاكها الحريات والسيادات.
وغداة يقظة الكرامة والشجاعة و(حس) المصلحة العامة في جمهور السوريين، في شتاء 2011، لم يدم تردد رأس «العصابة»، دون مخالبها الامنية والميدانية، غير أيام قليلة. واستيقظت الانفعالات المتراكمة التي أدت، في 1960، الى انشاء المكتب العسكري، وانقلاب 1966 على انقلاب 1963، ثم انقلاب 1970 على انقلاب 1966 واستئصال الخصوم المحتملين في الاثناء. ومذذاك، تولت «النخبات» (خير الدين حسيب) أو اهل «الصفوة» (زيد بن علي) استئصال مقومات انفصال الجماعات واستقلالها (استقلالهم) بميل أو هوية أو تاريخ أو مصلحة على حدة، ومعها مقومات سياسة تشبه الليبرالية على أضعف معانيها. وبلغ من غلبة المثال السياسي وتسيده على العلاقات العصبية والبيروقراطية الريعية التي نهض المثال عليها ان مفاجأة المعارضة السياسية الداخلية بيقظة الكرامة والشجاعة والمصلحة العامة في السوريين لم تقل عن مفاجأة رأس النخبات المستولية.
فلم تدرك، على خلاف المخالب الامنية والميدانية العصبية ومعها العصابات «الجهادية» التي امتحنتها المقاومة العراقية في شقيها، أنها تنتمي، واليقظة المفاجئة، الى طور سابق وآبد من السياسات ومزاولتها، على رغم تحدر معظم جماعات المعارضين من الشيوعية والناصرية وفروعهما. فهتافاتها، مثل «الشعب السوري ما بينهان» و»الشعب السوري واحد» و»لا خوف» و»الله وسوريا والحرية وبس» و»ارحل ارحل يا بشار»، تعول على ما تركت الحركات والمنظمات السياسية، اي الاهلية العصبية المسلحة، التعويل عليه، ولو على سبيل التشبيه والتضليل، منذ وقت مديد. وعندما أقر بعض أعضاء المجلس الوطني السوري بأن المجلس، وهو غلب عليه الاخوانيون أي أقرب الجماعات الى المثال الانقلابي، لا يمثل المتظاهرين والجنود «الاحرار» الذي استقالوا من جيش الاغتيالات والخطف والسرقات، فهم لم يعدوا الحقيقة المرة.
والاقرار لا يعالج المشكلة، على افتراض احتمال علاج أو جوازه، وليس خطوة على طريق حلها، على ما ظهر جلياً في الاعوام الثلاثة المنصرمة. فما يدعو اليه المثال السياسي الغالب هو ما يصنعه المفاوضون على خروج مقاتلي حمص، ومن وراءهم من «الدولة» والنصرة والجيش الاسلامي ومئات الكتائب والعصابات الاخرى. وما يصنعه المفاوضون على مبادلة 1500 أسرة محتجزة في عدرا العمالية بـ1500 رهينة بأيدي قوات ماهر وبشار الاسد في عدرا الصناعية. وهذا «خبر» نعته بالمؤسف تقليل لئيم من فظاعته. ومصدِّق لخبر، أو احتياطه من الصدق والحقيقة، هو هول عشرات الآلاف من القتلى (والقَتَلة) السوريين، وهول خراب العمران وهيام المنقطعين والمهجرين على وجوههم.
نوافذ