عقل العويط :يوميات الهرب العابر
“أجبرتني” امرأةٌ شاعرة، لا رادّ لمنزلتها، ولا لطلبها عندي، على السفر إلى باريس. حجزتْ لي مقعداً في الطائرة، وسدّدتْ ثمنه، ذهاب إياب. قالت: تسافر من يوم كذا إلى يوم كذا، وليس عليك خلال الأيام التي تسبق موعدكَ الميمون مع “الهرب”، سوى أن تسوّي الأمور العالقة، وتحضّر عدداً إضافياً من “الملحق”، ثمّ لا تلوي على شيء. هذا ما فعلتُه، بشغفٍ طفوليٍّ لا يخفى على أحد، لكنْ بعد طول مماطلةٍ وإرجاء. ليس لأني لا أحبّ السفر إلى باريس – فأنا أعشقه وأعشقها-، بل لأني رأيتُ في ذلك أنانيةً مترفة، خجلتُ من أن يكون لا يزال ثمة أوانٌ لها في خضمّ الأتون اللبناني والعربي القياميّ.
مضى لي أكثر من ثلاث سنوات لم أهرب فيها يوماً واحداً من رأسي. وها أنا أعود إلى باريس بعد انقطاع نحوٍ من ثلاث سنوات عن زيارتها. ربما أكثر. أين كنتُ خلال هذه السنوات؟ لستُ أدري. ربما لم أكن إلاّ في موضعٍ يُدعى العدم المشرقي. بل كنتُ منفصلاً عن خلايا في الرأس كانت تغيثني كلّما استبدّ بي فساد الوجود. يؤسفني أيتها المدينة أني لم أجتهد سابقاً في أن أعود إليكِ، الاجتهاد الذي يوازي الأعذار المستحقة. لا شيء يبرّر انفصالي عنكِ هذا الانفصال المقيت كلّه، لكي أعود إليكِ كما لو أن شيئاً لم يكن. لا أعرف كيف يمكنكِ أن تقبلي عودتي. لا أعرف حقاً.
أنا هنا الآن، وقد حطّت بي الطائرة للتوّ. ليس كثيراً أن أقبّل أرضكِ أيتها البلاد. أفعل ذلك، بالطبع، لا حنيناً إلى انتدابٍ فرنسيّ، ولا رغبةً في التغريب، بل لأنكِ جميلةٌ ومُهلكة كهواءٍ يفتح رئتيه عليَّ للمرة الأولى. هل هذا كافٍ لأُشعركِ كم كنتُ أرعن وقليل الحيلة؟ صدِّقيني، كنتُ غائباً غياباً فادحاً عن ذاتي، طوال هذا الوقت. لولا كائنات عاطفية تأخذ قلبي إلى حيث تشاء، وأعيرها ما تشاء من وجودي واهتمامي، لما كان من سببٍ جوهريّ يمنعني عنكِ.
أنا قليلٌ وأنتِ كثيرة. يمكنكِ والحال هذه، أن تعرفي كيف تكونين الأمَّ العذبة، وكيف أكون الإبن الشاطر الذي لم يكن في يده أن يبتعد.
ها أنا أستعيدكِ كمَن يستعيد حياةً فقدها. أنتِ طفولتي التي لم أعشها هنا. وأنتِ الرحم التي لم أُقِم فيها. لكنْ، كيف لي أن أكون طفلكِ، وأنا لم أكن جنينكِ الذي كم كنتُ أودّ أن أكونه؟!
هذا ليس تنكّراً لطفولتي، ولا للأمومة التي حضنتني في رحمها. فقد أحببتُ أن أكون في الآن نفسه جنينَين اثنَين، ثمّ طفلَين. بودّي أن أشرح هذه المعضلة المنفصمة، لكنْ لا. فلتُترَك هذه المسألة على سجيّتها. هكذا ستتفهّمين مرامي، أيها المدينة، وستتقبّلينني، وأظلّ أنا غامضاً مراوغاً ومتعدّداً كالهواء الذي يحرّرني من كلّ شيء.
لو كان لي أن أمتدح شخصاً ما، لامتدحتُ سيدةً نبيلة، جلوسُها شعر، ثقافتُها شعر، وكَرَمُها شعر. فها أنا قد وصلتُ إلى بيتها الأنيق، كشخصها، بعدما حرَّرَتْه من مستأجريه، لتجعله في تصرّفي، طوال هذه الأيام العشرة. هل كانت مدينةٌ كباريس، لتُطاق، لو كان المرء لا يجد فيها سقفاً حميماً يؤويه، كحال المحشورين في أمكنة ذليلة، أو بالأحرى كهؤلاء الهاربين من أوطانهم، أو اللاجئين قسراً، أو المشرّدين التائهين بالألوف؟! سلامي إلى حيث أنا الآن، وإلى سيّدة هذا السقف الأنيق.
خاطرة على هامش البيت الأنيق: لكم تمنيتُ أن ألتقي، وأنا خارجٌ ظهراً من المبنى، أو عائدٌ إليه في ساعةٍ متأخرةٍ من الليل، براقصة الباليه الشهيرة التي تقيم في المبنى نفسه، وتعمل في دار الأوبرا التي على مقربة. كان بودّي، مثلاً، أن أطلب منها أن ترقص قليلاً في عري الليل وصمته المريب. لكن هيهات!
لا أعرف لماذا أصل إلى باريس، وأتحدث عن شيءٍ آخر. علماً أني كدتُ أُمضي ليلتي الأولى في عراء الشوارع بعدما فقدتُ سبل الدخول إلى المبنى الذي أسكن فيه، وأضعتُ الورقة المسجلة عليها الأرقام التي تمكّنني من فتح البوّابة الرئيسية المفضية إلى فنائه.
أنا الآن، أمام محطة القطارات في مونبارناس، منتظراً القطار الذي يقلّني إلى حيث المحيط. مدينة لاروشيل التاريخية، البعيدة نحواً من 470 كيلومتراً عن باريس، ستستقبلني بعد نحوٍ من ثلاث ساعات. لا أعرف شيئاً عن هذه المدينة سوى تلك الصور، حضّرتها لي السيدة الشاعرة التي “أجبرتني” على السفر، لكي أكون على بيّنة مما أنا ذاهبٌ إليه. هي المدينة نفسها التي نصحني شاعرٌ متيّم بالطبيعة بأن أزورها، وقد كانت في عداد المشاريع المؤجلة التي لم يتمكن من تحقيقها، إلى الآن، هو الذي يحتاج إلى حيواتٍ مطلقة ولانهائية كي ينجز شغفه – هل أقول الرومنطيقي أو الإيماني – بالطبيعة.
أحبّ السفر بالقطار. ربما هو الوحيد الذي يستهويني، بسبب خوفي أو تطيّري من السفر بالطائرة، وهو خوفٌ صبيانيّ مستديم لا مبرّر عقلياً له. كما أني أتجنّب البواخر بسبب دوار البحر الذي قد يفاجئني، مثلما فعلها بي مرةً في سفرةٍ عاطفية، فجعلني موضعاً للإشفاق ولبعض السخرية.
الفندق الذي أقيم فيه، تفصل بينه وبين المرفأ التاريخي القديم طريقٌ فحسب. يمكنني أن أقول إني موصولٌ بروح المحيط وبحركته الدفينة. أحبّ البحر حبّاً لا يوصف. لا شيء يهدّئ روعي مثلما يفعل البحر في أحواله الشتّى، هادئاً أكان أم صاخباً، فكيف إذا كان هذا البحر هو المحيط.
لم أستطع أن أحقّق أمنيةً غالية على قلبي في أن يكون لي كوخٌ في مكانٍ ما من العالم، تضربه الأمواج ضرباً ماجناً موتوراً متوحشاً، وتخلع أساساته، وتجعله في مهبّها الأرعن الأحمق.
أجلس، صحبتي رأسي. ما أجمل أن يأتي شخصٌ مثلي من بلاد مشرقية موجوعة حتى في نخاعها الشوكي، لكي يطمئن إلى أن المحيط في هذا المكان من العالم لا يزال يواصل مهمته الدؤوب في صناعة أعجوبة المدّ والجزر، وإلى ما لا نهاية.
أأسمّي هذا ترفاً، أنا الذي يصل ليله بنهاره في العمل، والتفكير في الشعر والحلم والحبّ والحرية، وفي خلاص لبنان والمنطقة العربية، وقد اغتنمتُ هذا الهرب الضئيل لأُشعِر جسمي ونفسي بأني أريد أن أظلّ صالحاً للحياة، على رغم الأوجاع، الأوجاع التي يسمّيها أنسي الحاج، الأوجاع الشخصية؟ فكيف إذا كانت شخصية وغير شخصية؟!
في القطار لاعبتُ طفلاً صغيراً، ومن جرّاء المشاكسة غير المحسوبة، ارتطم رأسه قليلاً جداً بإفريز الحديد، فلجأ إلى بكاءٍ مفتعل. كان لا بدّ لي من أن أراوغه بلوحٍ من الشوكولاته ليهدأ ويستعيد ضحكته البريئة المجلجلة. لا بدّ من زعبرةٍ كهذه، بين حين وحين، لانتزاع ضحكةٍ ماكرة تسخر من هذه الحياة، ومن أوصابها غير القابلة للاحتمال.
النوارس. ماذا أفعل بالنوارس وهي مثلي لا ترأف بشهواتها وعذاباتها؟!
سأمضي الليل كلّه مع البحر- المحيط. لن أفعل شيئاً سوى الجلوس “الفلسفي” إليه، والتهامه بعيونٍ مغمضة، أو مبحلقة، لا فرق، ومخاطبته بصمتٍ يمكّنه من أن يتدارك ما فاته من هواجس بسبب صخب النهار، وقوافل السيّاح الذين انتهزوا الشمس الأنيقة هذه، ليحضروا بالكثافة التي تقتضيها الوداعات الخريفية المرهفة.
لا شيء يوازي الخريف، فكيف إذا كان بحرياً أطلسياً؟!
ليتني الفندق، أو هذا العصفور القليل الذي يجالسني الآن وقد استأنس بضعفي وهشاشتي، جالساً أمام الوقت الذائب، بصمت الفارّين إلى عذوبة الملائكة.
هي ليلةٌ واحدةٌ فحسب، أمضيها في ضيافتكَ أيها المحيط، فاجعلني أهلاً لأكون كاهنكَ، وخادم قدّاسكَ المهيب.
لم أشأ أن أُغلق ستائر النافذة ليلاً. كنتُ في حاجة ماسّة إلى ضوءٍ يأتيني من ليل المحيط. فلم أنم من النوم إلاّ ما ناداني جسمي إليه من نومٍ. كنتُ بين حينٍ وحين، أهرع إلى النافذة وأفتح شبّاكها الزجاج لأتنشّق هواءً طيباً، ممحوناً، بارداً، لكنْ عليلاً. كنتُ أحبّ لرئتيَّ أن تأخذا هواء المحيط كلّه، وأن تتداويا بالجرح الذي يطيب لليل أن يبوح به. جرحٌ طريٌّ، ليّنٌ، يشبه الهواجس المضمرة، معبَّراً عنها بهديل حمام، أو بنداء حلم. كنتُ أسأل لماذا لا أفعل شيئاً مماثلاً من شرفة بيتي المطلّ على الجهة الشرقية من البحر الأبيض المتوسط؟ أيجب أن يشعر المرء بالتبكيت، هناك، من جرّاء التفكير في ترفٍ مماثل، حين البلاد كلّها، لبناننا الصغير هذا، وبلاد الشعوب المجاورة، لا تجد حلماً واحداً ينجّيها وتنجّيه من قيد حياتها الممعوسة بالاستبداد والظلاميات الدينية المتنافرة؟
كنتُ سيّداً من أسياد الليل، وأنا ماثلٌ أمام المحيط، وكنتُ أميراً من دون حاجة إلى إمارة، محاطاً بحاشيات أنيقة هي غيومٌ بيضاء، وسماءٌ عالية، وهلوساتٌ، وشهواتٌ، ورغباتٌ، وشعوبٌ من العشّاق، من دون أن أكون في حاجةٍ إلى عشيقة. بقيتُ الليل إلاّ أقلّه هكذا. إلى أن جاءني فجر المحيط من غرفتي تلك، يسألني النزول. فنزلتُ.
كان المشهد رائقاً كأوّل الخليقة. وكنتُ وحيداً. هذا هو سرّ الهرب الصغير، على كلّ حال، صحبتي النسيمُ الفجريّ ورأسي، سابحاً في شيء يشبه لستُ أدري. ثمّ مقهى الصباح، وقهوته، تماماً تحت سقف غرفتي حيث الفندق. فيا له من صباح!
أنا الآن في طريق عودتي مجدداً إلى باريس. أمامي خمسة متاحف ينبغي لي أن أزورها، وأمامي فيلم get on up الرائع، وهو عن سيرة المغنّي جيمس براون، ثمّ مباراة في كرم القدم بين فريقَي سان جيرمان وبوردو، صحبة ابن شقيقتي، المقيم هنا في غفليته النبيلة وشاعريته الفكرية والانسانوية، الأمر الذي سيترك مرارةً كبيرة في قلب فتايَ الأمير. فكيف لا يكون هنا معي؟!
أريد أن أفعل شيئاً من أجلي، ومن أجل هذا العالم. فلأكن إلهاً مضادّاً.
أنا موجودٌ في رأسي الآن، كما دائماً، لا أحتاج إلى شيء سوى إلى المزيد من الجنون المتكتم كي أواصل سيري الحثيث نحو لستُ أدري.
لا يُنقِص من كرامتي الشخصية ولا من وطنيّتي اللبنانية، ولا من سلّم قيمي العربية والمشرقية، أني فرنسيٌّ بالشوق. هذا بيانٌ أقوله على الملأ. مفاعيل الثورة الفرنسية، وما ترتّب عليها من منعطفات ومكاسب هي خلاصة الدولة المدنية العلمانية الديموقراطية، متمثلةً في الحياة والقانون والسياسة والأنسنة و… الأدب والفنّ، هي ثورتي التي لم أصنعها، لكني أتباهى بأني أحد مريديها والمتنعّمين بمفاتنها. أما هذه اللغة الفرنسية البهيّة فهي اللغة التي اكتسبتها على قدر الممكن، لكنْ ليس على قدر العشق الذي يملأني من جرّائها، ولا على قدر الرغبة التي أرغب أن أنغمس في أتونها المحيي.
يكفيني أنكِ موجودةٌ أيتها اللغة. لو استطعتُ لأكلتُكِ أكلاً أيتها البهية المثيرة للجوع والعطش. لو استطعتُ لَكنتُكِ مثلما أفعل مع لغتي العربية، التي هي أجمل شيء في حياتي المقروءة والمكتوبة. وربما هي الشيء الوحيد الجميل عند العرب، وفيهم.
ليتني أنام في هذه اللغة الفرنسية. ليتها تجعلني غيمةً من غيومها، لأجد فيها المأوى الذي أجده في العربية وغيومها. أما أنتَ أيها الشعر الفرنسي فليس سوى حبرَك يعرف أسرار عينيَّ.
يسعدني أني أعرف الفرنسية، بما يجعلني أقرأ شعرها وأدبها ونقدها، وأخاطب أهلها. لكني لا أجيد كتابة الشعر فيها، وهذا شيءٌ حسنٌ للغاية. فأنا، في الحقيقة، أريد أن أظلّ أشتهي أن تأكل عينايَ حبركَ الفرنسيّ، أيها الشعر، حروفكَ، خفاياكَ، ظلالكَ، متاهاتكَ، وورقكَ الأبيض، فأحيا فيكَ إلى الأبد.
يؤسفني أن فرنسا تعيش أزمة قيم في السياسة والعلاقات الدولية. بلادٌ كهذه، كانت مواقفها منارةً ساطعةً كشبقٍ من نور، لستُ أدري كيف آلت إلى شبه انحطاطها المخزي هذا، فصارت ترضخ للتسويات المهينة في حقّ الشعوب؟ لستُ أدري كيف صارت تتغاضى عن ثورات المقهورين، وتساهم قصداً أو سهواً في معسها؟ هل أسألها عن هؤلاء اللاجئين المشرّدين الذين ينامون بأعداد مفجعة عند أبواب المباني، في أحيائها الراقية والشعبية على السواء؟ أم هل أسألها كيف صارت تتقبل حكّاماً من طينة نيكولا ساركوزي وفرنسوا هولاند على التوالي. أهو أيضاً، هنا في فرنسا، أهو السقوط الحرّ في المستنقع؟! أنا الآتي من بلاد الشرق المفجوعة بحكّامها ومصائرها، أيحقّ لي أن أتكلم عن حكّام الآخرين؟!
هذه أيضاً مسألةٌ ليس هنا، في هذا المقال، موضع مناقشتها. لكنْ، هل يُعقل أن يصل الانحطاط السياسي بفرنسا إلى هذا الدرك المثير للشفقة؟!
باريس تثيرني. وتستفزّ.
كان لا بدّ من أن أعود إليكِ أيتها المدينة لأستعيد بعضاً من حياتي المفقودة. كم أنا قليلٌ وأنتِ كثيرة. أعطيني بعضاً منكِ لأحيا قليلاً. أخاطبكِ من دون مجاملات، ومن دون مواربة، وهي طريقة غير مستحبّة في العشق والتقرّب. ففي الغالب الأعمّ، لا بدّ من أن تبوء مخاطبة كهذه بالمرارة والخيبة. وخصوصاً هنا في باريس. ومعكِ. لكني أفعل ذلك أيّاً تكن النتيجة. لا يهمّ.
اقبليني فقط لا غير، أنا الآتي إليكِ على سبيل الهرب العابر، لا الإقامة. من شأن الرضا هذا، أن يجعلني منتمياً إلى الهواء الذي يؤلم نقصانه رئتي.
أستطيع أن أزوركِ، وأن أفعل ما يفعله الزوّار والسيّاح، من دون الحاجة إلى نيل الرضا. لكني لستُ زائراً ولا سائحاً. إن أنا سوى جنين يظنّ يعود إلى رحمه، وطفلٍ يظنّ يأوي إلى بيته.
جلستُ في café de la paix كمَن يجلس تحت غيمةٍ من غيوم روحه. كيف يتخذ مقهىً فيكِ هذا المعنى؟! كيف يكون لكرسيٍّ مقيمٍ خلف زجاج أن يأخذكَ إلى خيالاته، ومشاعر المكان، وما يتناثر من شظايا هي ذروة ما ينوب عن الكلام؟
في مقهى le bonaparte يمكنني أن أُجري ما لا يستطاع من مخاطباتٍ أرى أنها تُلتقَط سهواً وعفواً، وبشحنات المغناطيس الغامضة، كلّما أدرك كائنٌ مثلي أن الأمكنة الشعرية تُخاطَب هكذا بعد تذويب الفواصل والمسبقات، في كأسٍ من نبيذٍ أو من غيوم.
كيف لا يكون ذلك ممكناً ومستطاباً، إذا كنتُ لا أرى أمامي إلاّ ساحة سان جيرمان، والكنيسة الأنيقة، ومكتبة la hune الشهيرة، الألذّ زيارتها عندي من شهواتٍ جمّة مبتكرة؛ التي، لسببٍ ينذر بالسوء، باتت تقفل أبوابها في ساعة مبكرة من الليل، بعدما كانت تنتظر ساعة الكنيسة التي تدّق دقّاتها الاثنتي عشرة إيذاناً بالإقفال؟ هنا حيث المقهى الشهير المقابل les deux magots يومئ إليَ تعال تعال. هنا أيضاً حيث كائناتٌ تشكيلية – يا لها من كائنات – هي أنصابٌ وتماثيل جديدة تستقبلها موقتاً هذه الساحة الأدبية المُغوية، فتدغدغ ما فاتني من شعرٍ أو من أحلام محطمّة؟!
هنا منحوتةٌ ترمز إلى الشاعر الذي يكتب. ثانية للقراءة. وثمة ثالثة للأمل. الثلاث المنحوتات للفنان إتيان. يهمّني هنا أيضاً أن أنحني لكَ أيها الأمل، فاعطِني ما يشدّد عزيمتي على إكمال ما يُرتجى من شخصٍ مثلي.
أما أنتَ أيّها الشعر، فافتحْ بيتكَ. افتحْ لنا. عراء العالم قاتلٌ ومدقع. ليس لنا من أستاذٍ سواكَ، أيها الأمل الشاعر!
ليت في مقدور فندقٍ ما، هنا، بل غرفة تطلّ فيه على الساحة، أن يجعلني نزيله، من أجل حفنةٍ من النظرات والمشاعر و… القصائد.
لسببٍ ما، ذهبتُ إلى ساحة saint andré des arts حيث المقهى الذي يحمل الاسم نفسه. ماذا تراني أفعل هناك، سوى كتابة الهواء والتقاط الزفير من أرواح الذين يعبرون في هواجسهم الجميلة؟ ليتني شجرة تتنفس في هذا المكان. ليتني النهر الذي على مقربة. لو كنتُ إلهاً لشئتُ أن أُعطى هذه النعمة؛ نعمة أن أجلس في مقهى، في الحيّ اللاتيني، فقط لأخاطب لحظة الغفلة عن الزمن، وذلك الحمام الذي يستدرج حطام الخبز المبدّد كمطرٍ خفيف.
يؤلمني أني لا أستطيع أن أكون إلهاً، لأجل تحقيق هذا المبتغى. وأيّ مبتغى!
اجتمعتُ مساء اليوم بالمركيز دو ساد في متحف “أورسي”. هو معرضٌ لتمجيد الرغبة، وتمريغ المحرّم. أقول الرغبة المتأججة، أكثر من اللذة المتحققة. وحدها الرغبة تصنع العبقريات!
في الصباح، كنتُ ألقيتُ التحية على حدائق التويلوري، ثم قصدتُ متحف “الأورانجوري”، حيث التقيتُ أميل برنار. أعترف أني أحببتُ هذا الرسّام حبّاً جمّاً، وجعلته ينضمّ إلى متحف الذاكرة العقلية والروحية في كينونتي المنشغلة بتفعيل الكيمياء اللونية والتشكيلية في رأسي. لكني في المقابل لم أتمكن من التفاعل الجدي مع معرض “القصر الكبير” حين أتيتُ إلى موعدي مع الياباني هوكوساي. شعرتُ أني غريبٌ نوعاً ما، وأن من الصعب على الغريب أن يجد متكأ يسند إليه رأسه في المعرض المقام في هذا المكان. لولا موجاته العاتية، المغوية، والمثيرة للإعجاب، لما استطعتُ أن أضع قدميَّ في بحره والخضمّ.
على مقربة من “القصر الكبير”، تظاهرة ضخمة لصالات العرض الفرنسية وسواها تحت عنوان art elysée، تلقي الضوء على إيقاعات الاختبار التشكيلي الراهن، في تنوّعاته الجمّة. عالم التشكيل مختصَراً في سرادقات كبيرة، يستدعي تأملاً جدياً في أحوال الفن الحديث ومآلاته.
قبل أيام، كنتُ في عهدة الكاماسوترا. حيث أمضيتُ في متحفpinacothèque نحواً من ساعتين متأنيتين، لاعتقادي أن هذا المعرض هو نقطة الثقل الأساسية في هذا الأوان الباريسي المتألق، جاعلاً عينيَّ رهينة الشبق الجليل بحثاً عن الخلاص بالجنس.
أرغب في أن أكون إلهاً من أجل إنجاز هذا الخلاص.
لا أنسى أني كنتُ قد سهرتُ مع “سان لوران”، نحواً من ثلاث ساعات. كانت السهرة خلواً من أيّ نوعٍ من أنواع الرقابة السينمائية (هل أقول الأخلاقية؟!) الممجوجة. الآن أهتف، يا لها سهرة بصرية وجمالية، حيث يمعن الخلق السينمائي في الامتزاج برهافة الإبداع الفنّي وبلاغة السيرة وما يراه البعض من أنه محنة الحبّ الذكوريّ. وهذه مسألة أخرى.
على سبيل التذكير أيضاً، كنتُ في وقتٍ سابق، قد أمضيتُ ثلاث ساعات متواصلة صحبة الفيلم التركي sleep winter (سبات شتوي) لمخرجه نوري بيلغي جيلان، الذي فاز بالسعفة الذهب في مهرجان كانّ 2014. كان ينبغي لي أن أستكشف أسرار هذا الفيلم المتألق، نزولاً عند نصيحة حارّة من صديقة عارفة هي أستاذة متخصصة في طب النفس العيادي، وأنتروبولوجيا النفس البشرية. لم أكن محبطاً من جرّاء الفيلم الذي تغوص شخصيته الرئيسية – شخصية المثقف – وشخصياته الأخرى، في أحوال الشرط البشري المشروخة، وتمزّقات الأنا حيال ما يمضّ الوجود الفردي في حميمياته الخائبة وأحلامه المتشظية. بل كأنني كنتُ في نسيج الفيلم الذي كثيراً ما لامس شيئاً هائماً من شظاياي المتناثرة.
كم نحن سواء في الشرط الوجودي لهذا العالم!
ثمة رذاذٌ في الخارج وعلى الزجاج. يسعدني أن أكتب الآن، وهنا، عن الرذاذ من وراء زجاج مقهىً باريسيّ. أتخلّى عن الألوهة من أجل الحصول على متعةٍ كهذه. وها أنا أتخلّى.
حالةٌ في الطبيعة، كهذه، كما في عينيَّ، وخلايا رأسي، تجعلني في مقامٍ يوازي عندي ذروة الجنس الروحي. ولِمَ لا، الجسدي. أنا الآن رهين هذه الذروة.
لكنْ، كيف يمكنني أن أبقى هنا، وأنا ليس عندي سبيلٌ إلى ذلك؟
ثمّ، أليس الحفر في قعر الوقت العابر، سبباً من الأسباب التي تعمّق الشعور بخواء المرارة، عندما تجد نفسكَ أيها الإنسان في خضمّ الإحساس بالعدم المشرقي، وأنتَ في غيمة العودة إلى حيث يستقبلكَ وحوش الاستبداد والتكفير والغلبة والظلام؟
إنها رغبة الحفر في قعر اللذة، وإن يكن القعر فاغراً. لن يستسلم مَن هو مثلي ليأس الرغبة. ثمة أشغالٌ كثيرة يجب أن تُنجَز. فاعطيني أيتها الرغبة أن أكون بئركِ الفاغرة. أما أنتَ أيها الأمل فاعطِني أن أكونكَ. إذا لم يكن من أجلي فمن أجل مَن – وما – يستحقّ أن يُحَبّ في بلادنا الموجوعة.
إنه اليوم الأخير. شعورٌ مسبق بوجع المغادرة. المقهى هو دوائي وقدّاسي الوثنيّ الأنيق الذي أبدأ به النهار. ثمّ رحلة في أعماق حضارة شعب المايا وأساطيره وفنونه في متحف “كي برانلي”. لا ينبغي لأيّ كلامٍ أن يختصر ما لا يُختصَر. ثمّة حاجةٌ إلى الاحتفال بالمايا في الليل الأخير. مررتُ على سبيل الوداع بالمكتبتَين العزيزتَين على قلبي la hune و les écumes des page قبل أن أنضمَّ إلى كأسين – ألم تكن ثلاثاً؟! – من النبيذ الأحمر، لأعود فأستقلّ الطائرة في اليوم التالي، إلى بلاد المضمرات الدموية وأوجاع… الكرسيّ الرئاسيّ الفارغ!
شاعر لبناني / النص عن الملحق