زملاء

عادل لطيفي : الربيع العربي بين التحول السلمي والحسم الدموي الشامل

لقد اختلف مصير الحسم في الثورات التي تشهدها الساحة العربية منذ أقل من سنتين، وذلك بتراوحه بين الحسم المدني السياسي وبين الحسم العسكري الدموي الشامل. كان التحول سلسا في الحالة التونسية وطغى عليه البعد المدني السلمي، في حين تميزت الحالة المصرية بتجاذب بين الطرف السياسي المدني والطرف العسكري.

أما الحالات الأخرى فحكمها الحل العسكري الشامل. سنحاول من خلال مقاربة علم اجتماعية وتاريخية، استقراء هذه الاختلافات التي سيكون لها دور في أفق كل تجربة ثورية عربية.

الحالة التونسية: حسم سياسي مدني سريع
تميزت الحالة الثورية في تونس إذن بسلاسة تحولها من نظام بن علي إلى المرحلة الانتقالية الحالية. لم يلعب الجيش التونسي دورا في عمليات المواجهة في الشارع التونسي أيام الثورة والتي حسمت بتوسع المظاهرات وبتراجع قوات الأمن الداخلي إلى هروب الرئيس الأسبق يوم 14 يناير/كانون الثاني 2011.

تأكد هذا الدور الحيادي نسبيا من خلال رفض أوامر قيل إنها أعطيت للجيش لقصف حي من أحياء مدينة القصرين حسب ما أفادت به لجنة تقصي الحقائق في تقريرها. هذا الدور شبه الحيادي والمركز أساسا على مهمة الأمن العام كان قد برز كذلك أثناء ثورة الخبز سنة 1984 حيث تعاطف المتظاهرون مع الجيش واعتبروه ملاذا لهم من قوات الأمن الداخلي.

هامشية الدور السياسي للجيش في تونس واقتصاره على تسيير شؤونه داخل الثكنات، تفسر هامشية دوره في النسيج الاجتماعي. فعلى عكس كوادر الأمن الداخلي، التي كانت لها حظوة اجتماعية ومكانة في سلم التراتبية الاجتماعية، كانت الكوادر العسكرية شبه مهمشة وتشبه حالتها وضع أي موظف تونسي عادي.

على المستوى الأمني كان النظام في تونس إذن نظاما بوليسيا ولم يكن نظاما عسكريا. والفرق كبير بين العقيدة الأمنية البوليسية والعقيدة الأمنية العسكرية: البوليس يسجن معارضيه أما الجيش فيقتلهم.

يجب أن نفهم هذه الخصوصية التونسية، التي جعلت منها الجمهورية الوحيدة غير العسكرية من بين الأنظمة العسكرية، في سياق التاريخ الحديث والمعاصر للبلاد. من المهم التذكير بقدم الدولة الوطن في تونس والتي تعود إلى سنة 1705 واعتلاء العائلة الحسينية سدة الحكم قاطعة فعليا روابطها مع الباب العالي. وقد تواصل الحكم الحسيني إلى يوم إعلان الجمهورية في 20 مارس/آذار 1957.

لا يمكننا من جهة ثانية أن ننسى دور الرئيس التونسي الأول الحبيب بورقيبة. فبغض النظر عن التفافه على الحرية وعلى الديمقراطية إلا أن جمهور المؤرخين يشهدون له بنوع من العقلانية في تصوره لمؤسسات الدولة وللنظام الجمهوري والذي تمكن من خلاله من تأسيس مؤسسة عسكرية جمهورية تعمل بالأساس في ثكناتها ثم في المجال المدني ولا دخل لها في السياسة.

كانت تلك هي الصبغة العامة والبارزة ولكنها لا تعني غياب حالات أخرى ولو محدودة تتعارض مع ذلك الحياد العام.

لا بد من الإشارة في هذا السياق إلى عامل آخر ربما حسم المسألة لصالح البعد البوليسي وكذلك البعد المدني في تونس على حساب الصبغة العسكرية. يتمثل ذلك في مصير الصراع بين الحبيب بورقيبة وخصمه ورفيق دربه صالح بن يوسف.

لقد كان صالح بن يوسف متأثرا، ولو ظاهريا، بالتجربة الناصرية وبدور الجيش في المقولة القومية. وانتصار بورقيبة بإقصاء خصمه بالاغتيال وبتسليط العقاب الجماعي على أنصاره أزاح الخيار العسكري في تونس المعاصرة.

أقول هنا على ذمتي كدارس في التاريخ إن تحييد اليوسفية وقى تونس من تجربة عسكرية كانت ستكون عروبية في أحسن الأحوال ناصرية وفي أسوئها بعثية.

قد نضيف إلى هذه العوامل التاريخية المرتبطة بتشكل النظام السياسي في تونس عوامل أخرى. منها عراقة التمظهرات السياسية المدنية مثل التجربة الدستورية (1857) والتجربة الحزبية والنقابية خلال العشرينيات من القرن الماضي.

وقد تكللت هذه العراقة بوجود الاتحاد العام التونسي للشغل وكذلك بالرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والتي استقطبت المعارضين تحت دولة الاستقلال. ومنها كذلك عامل السبق الزمني والمباغتة في الثورة التونسية والتي لم تترك للنظام السابق فرصة إعداد نفسه.

الحالة المصرية: تجاذب العسكري والمدني
إن ما ميز التجربة الثورية المصرية هو تأرجحها بين الصبغة السلمية الجماهيرية والسياسية وبين البعد العسكري الأمني. ففي البداية لم تتضح معالم الحسم ولا موقع الجيش مما حدث أثناء الثورة ولا فيما بعدها. وقد بلغ هذا التجاذب أشده بعد انتخاب محمد مرسي رئيسا ولا نظنه انتهى بتغيير رئاسة المجلس العسكري ووزير الدفاع.

هذان البعدان المتوازيان، السياسي المدني والعسكري، لهما كذلك جذور تاريخية منها العميق ومنا الظرفي القريب.

فعلى مستوى مظاهر المدنية الحديثة لا تختلف مصر عن الحالة التونسية وربما كانت التجربة أعمق أحيانا في حالة مصر. الدولة الوطنية تعود إلى بداية القرن التاسع عشر مع محمد علي الذي انخرط في تجربة إصلاحية متميزة.

كما أن التجربة الدستورية المصرية لا تقل عراقة مثل ظاهرة الأحزاب (الوفد 1918) و الجمعيات (الإخوان المسلمون 1928)، ويعود انقلاب الوضع لصالح البعد العسكري في السياسة إلى ثورة 1952 التي أدرجت الجيش كمحرك وكمنظم للمجال السياسي ولسلطة الدولة وذلك تحت شعارات أيديلوجية قومية.

وربما ساهمت الطبيعة الزراعية للمجتمع المصري في إنجاح هذا التحول خاصة وأن الأحزاب، ومنها حزب الوفد، كانت أحزابا مدينية بامتياز. هكذا شهدت المرحلة الناصرية هيمنة الجيش على مفاصل الدولة وذلك إلى حدود ما بعد حرب 1973 لأن الهاجس الأول كان المواجهة مع إسرائيل وحلفائها. كما احتلت العناصر العسكرية مكانة مرموقة وحظوة في سلم التراتبية الاجتماعية المصرية.

التحول الثاني كان مع إمضاء معاهدة كامب ديفد التي أسقطت أولوية المواجهة مع إسرائيل ليتحول دور الجيش من عسكري أمني موجه للخارج إلى دور سياسي داخلي. وصاحب ذلك بداية عودة للأحزاب وانفتاح على الإسلاميين خاصة بعد اغتيال السادات.

كما تحولت المؤسسة العسكرية إلى لاعب اقتصادي مهم من خلال التصنيع الحربي، وخاصة من خلال تصرفها المباشر في المساعدات الأميركية. أي أن المؤسسة العسكرية أصبحت ذات ثقل اقتصادي بالإضافة إلى ثقلها السياسي وهنا نفهم حرصها على التمتع بالاستقلالية المالية.

هكذا وجد نوع من التوازن بين البعد العسكري والبعد المدني في السياسة المصرية بدا واضحا خلال العشريتين الأخيرتين.

وهكذا كان الاستقطاب الأول بعد الثورة استقطابا بين المؤسسة العسكرية والأحزاب ومختلف قوى الثورة ليتواصل فيما بعد من خلال التعارض العسكري الإخواني. وأعتقد في هذا السياق أن تراجع دور الجيش سيؤدي إلى تنامي الصراع السياسي الحقيقي بين الأحزاب وبين قوى المجتمع المدني من أجل صياغة مشاريع مجتمعية بديلة. لكن الشرط الأول لذلك يتمثل في عدم السقوط في تعويض تغول الجيش بتغول الإخوان.

ليبيا واليمن وسوريا وعقيدة التطرف العسكري
وقائع الثورة في ليبيا وفي سوريا وفي اليمن تعطي وجها آخر للربيع العربي. هي صورة قسوة الرد العسكري الذي اتخذ منذ البداية شكل المواجهة العسكرية الشاملة مع المجتمع.

كان القذافي قد بادر بالرد على المظاهرات السلمية بالقصف الجوي وبالدبابات دون أي اعتبار للأرواح التي أزهقت، وكان نفس السيناريو قد اتخذه بشار الأسد وجيشه في درعا ثم في بقية المدن السورية.

كانت نفس السياسة التي اتبعها علي عبد الله صالح حيث كان جنوده يتصيدون المتظاهرين في شوارع المدن اليمنية.

في هذه الحالات الثلاث يعود خيار المواجهة المسلحة الشاملة مع المجتمع إلى تجذر العقلية العسكرية في الحياة السياسية لهذه البلدان ولو بأقل حدة في حالة اليمن. عقلية العسكر المحضة في علاقته بشعبه يمكن تلخيصها، ولو بشكل بالغ التبسيط، في ثلاث إمكانيات: إما أن يقبل المجتمع كليانية الجيش وينعم بالسلم، وإما أن يندثر في حالة مواجهته للعسكر وإما أن يندثر الاثنان ضمن عقلية الأرض المحروقة وعلي وعلى أعدائي كما فعل القذافي وكما يفعل حاليا بشار الأسد.

 

لهذه العقلية خلفية تاريخية. فهي تغذت من انغلاق المجتمع مع القذافي في ليبيا ومع حزب البعث في سوريا، في حين يعود انغلاق المجتمع والنظام في اليمن إلى فترة الإمامة بالرغم من الديمقراطية الشكلية التي كانت موجودة.

ولهذا السبب انعدمت في ليبيا، وكادت في سوريا، منظمات المجتمع المدني المستقلة، لتلعب دورا في إعطاء دفع للحل السياسي وتفادي الحسم الأمني.

المواجهة الشاملة مع المجتمع وبالشكل الدموي الذي اتخذته تؤدي عادة إلى تصادم إرادتي البقاء القسري في السلطة بالنسبة للنظام القائم والرغبة المجتمعية الجامحة في المضي نحو أفق جديد. هكذا تطول مدة المواجهة لتتحول إلى استنزاف ثنائي للمجتمع وللسلطة القائمة وهذا ما شاهدناه في ليبيا وما شاهدناه في اليمن وما نشهده اليوم في سوريا.

يطول زمن المواجهة وتتوازن القوى وتتضاءل إمكانية الحل السياسي الداخلي مما يفتح المجال أمام التدخل الخارجي. هكذا نفهم الدور الخليجي وخاصة السعودي في الحالة اليمنية. هكذا نفهم الدور الحاسم للتدخل الغربي في حالة ليبيا.

ثم هكذا نفهم كيف صارت الثورة السورية مرتعا للتدخل الأجنبي الخليجي والإقليمي والدولي. بطبيعة الحال يتحمل النظام السوري الحالي كل المسؤولية في فتح شهية التدخل الخارجي، كل طرف يفرض مصالحه السياسية والاقتصادية والتي لا علاقة لها أحيانا بمطالب الشعب السوري في الحرية وفي الديمقراطية.

المصدر:الجزيرة
اظهر المزيد

نشــــطاء الـرأي

نشــــــــطاء الـــرأي : كيان رمزي وخط إنساني لحرية الإنتقاد الثقافي و الفكري والسياسي ، بدعم مالي مستقل Organization for peace and liberty – OPL : www.opl-now.org

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب
إغلاق
إغلاق