زملاء

أحمد ديبو : الكتابة لدى عقل العويط تتحول إلى سلك من الوعي والعدمية

  • وأنت تقرأ عقل العويط، تقف متوتراً أمام نصّ لا تهدأ له حركة، ومخيلة لا تشفّ عن قرار، على ما بينها من سردية تخرج النصّ من شاعريّته إلى مكان يقترب من الرواية دون أن يدانيها، ويبتعد عنها بعنجهية شعرية

 

اختار الشاعر عقل العويط في كتابه (وثيقة ولادة) الصادر عن دار الساقي أن يخرج من ورطة الأساليب في الكتابة، فيصرح علناً عن ذلك ليقول: (أروي لكنني لست روائياً، أعثر على أسلوب ينقذني من ورطة الأساليب). على الرغم من هذا التصريح المبجّل، إلا أنني أعتقد أنه اختار شكلاً فنياً لكتابة (وثيقة ولادة) هو أسلوب (البورتريه): أنا الشاعر، أنا تجربة الولادة والصرخة والنار والنوم والعشق والأسرة والوطن والقيامة. والتي تتلخص جميعها في كلمة واحدة هي الحياة التي تتوتر لديه وفق إيقاع تصاعدي صادم باتجاه صوفية وجودية منفلتة. يقول الشاعر: (أنا أولد الآن، إنها الساعة الثامنة تقريباً. 6 آذار 1952. الوقت وقت صباح، لكنه ليل، هذا موعد الابتزاز، فأقبل ابتزازي، تقول لي الحياة) ص 14

  بهذه النبرة الخريفية تبدأ رحلة الولادة، ولادة الشاعر الذي هو الكتاب، وقد مزج دون فكاك من ذلك. تتحول الكتابة تدريجياً إلى سلك مكهرب من الوعي بالعدمية والدوَّار الكوني، لذلك نرى الصور لديه تطلع من بركان جسده، فتكون ذات علائق نفسية، مثقلة بالأصداء والغبش. والقول لديه جامح، متأهب، ضارٍ، حلزوني، تلهبي. نرى ذلك في نزوعه إلى تقريب المسافة بين الكلمات عبر الشعر. فالشعر هبة لوقف الاختناق، إنه تصريف للاختناق الذي لم يجد غيره يحرره وينقذه، بل أيضاً يعثر على هبة النوم الذي يمارسه الشاعر لنفسه وحياته، كما لشعره ومحطات التحرر من ضواغطه في حالات اليأس.

يقول: أنام لأني أتعب من النوم. كلامٌ أول: هل ذقتم مثلي النوم اللذيذ؟ لم أكن سوى طفلٍ أغراه أهله بالعرض المسرحي، ألا وهي الحياة، ثم أغروه بدميةٍ لم ألبث أن خلعت ساقيها عنها، ثم يديها، فرأسها، لكي أستكشف دفائني في حطامها. دفائني منذ الأزل، وإلى نضوب الأزل. لفني الضوء بقماطه الهائج حتى كبرت، فصرت هاويته. يا للعجب!… أنا تحت حلكته كثمرةٍ معلَّقة بأنشوطة الشعر. كانت الستارة مرفوعة، وأنا كنت أنتظر، وكم كان عليّ أن أغفو لأرى المشهد السحري بكماله. كنت أنتظر… أو كنت أظن أنني أنتظر، وكانت الستارة مرفوعة، وكان لديّ وقتٌ طويل للنوم، ليتني لم أستيقظ. هأنذا مستلقٍ تتلطف بي الشمس بجديلتها الشقراء. لا زلت أحتفظ بحنان النوم وأنا بين أوراق هذا القفر المتقع الضراوة. لقد كنت في النوم: أعذل وأصبر وأستر وأجمع وأذكر وأخف وأروع وأهيب وأرهب وأرغب وأطلب وأنسب وأكظم وأعظم وألزم وأحكم وأكتم وأخص وأخلص وأغضب وأنفذ وأنصت لذلك كنت أدوم وأكشف. لقد مزج الإنسان من نوم ويقظة، فالنوم من نور، واليقظة من حجر، فإذا مزج النور بالحجر… صارت جوهرة.   يقول الشاعر: (ليس لي أن أولد بسوى جرح الشعر). فالشعر هو أن يسأل ويباغت كل شيء، لأنه كل شيء، والشاعر الحقيقي لا يسأل الشعر شيئاً، لأنه لا يرضاه شيء. وهو بالشعر يذهب إلى آخر كل شيء فيذهب، ولا يذهب إلى أوله فيجلس. وبالشعر يسرد الشاعر رواية نسله وولادته، لكنه يحرص على أن يبقيك في لغة متوهّجة، ليؤكد على أنها أصله وفصله وولادته ومداره. فالشاعر في دواخله يتغلّب على كل شيء، وكعادته لا يبقي شيئاً إلا وينقضه، بل يبعثره ويذريه، إنه ابن الغبش، والفوضى والغموض الأحب والأرحب على قلب الشعر وشهواته.

يجمع كل ذلك ليرويه برواية الحدس، نعم، إن الشاعر عقل العويط في تجربته الشعرية منذ باكورته (ماحياً غربة الماء) 1981 هو ابن الحدس: حدس الصورة وحدس المعنى. فكلامه ينزلق في معبر صرخة الولادة التي ترافقه حتى في أحلامه، ودموعه، وحبه، ورعبه، فهو في حالة غرق دائمة بدون مركب إنقاذ. يقول: (في رأسي حياة، ليست حب الحياة، لي حواسّ هي الحواسّ وشقيقاتها. لي أفكارٌ ليس هي الأفكار. يُضنيني أني أولد لأعرف، لو أستطيع، لبقيت ما يلذّ للأفكار ألّا تعرف أنها أفكار، وللكلمات أنها كلمات. تعلمت أن الله موجود، ولا أعرف كيف هو موجود ولماذا) ص 29 إنه شاعرٌ مليء بنزق ريفي لا يوصف، وهو يفضّل أن ينزوي بشعره ليغدو شاهداً على حاله، مريرٌ ولعه بالحرية. كلامٌ آخر: ولادةٌ ونيّف انتحبت بخفوتٍ صارخٍ بين يديه. خمسون سنة ونيّف ليس في رؤوسها شعرة شيباء أنكرته. لأن حياته لم تكن سوى برقٌ يلمع، ونوحُ رياح، وابتهاج مداخن. أفسدته الكتابة على كل شيء، فكان الحجاب، فالحجاب حتى لا ينقطع في السعي إليه. ذهب وراء الشعر، ووراء الحب دون أن يشاورهما… فتناوبا عليه: فالحب إقبالٌ دون رجوع، والشعر هروب دون رجوع. ووقع ما بين إقبالٌ وهروب. الحب يأمر وينهي بالوجد، والشعر لا يأمر ولا ينهي… لأنه يقيم ناظراً إلى من في النار. الحب دنيا، والشعر رؤيا. ووقع في الهوة وما أحلا الوقوع. طفلٌ أو صبي، ورجل لا يشابهه أحد، يريد من الليل بنجومه وقمره أن يجثوا أمامه، إلا أنه يذهب وحيداً في الشوارع المقفرة، ويأتي زائراً على هيئة شهاب. قريته هي الشعر الهادئ للزمن الماضي، هي سلام المنزل الأول. أشياء زمن الطفولة، طقطقة أخشاب عتيقة في موقد الشتاء.

أمّا بيروت الرجولة، فهي دم السماء المقدَّس، دم المدينة الجريحة بسكاكين الحقد، دم الريح العاتية، دم البحر الهائج والرائق، ودم النهر الذي يخترق أحشاءها. لكن بيروت هي الشعلة أيضاً، أخت عشتار، أنثى الفاكهة، مروج الشيطان، نقاء الشبق، نبيذ العافية، بلّوطة الشعر، رعشة القلب المفطور بسهم كيوبيد، كلس العناء، روائح العطور، والشتائم الحمراء. هذا التناقض بين مسقط رأسه حيث نبيذ أخوة من أم انتسبت إلى الشعر، وأب انتسب إلى الشكيمة، وبين بيروت، هو وراء هذه التضادات المخيفة في كتابته، والتي جاءت بمسحة صوفية وشبق زيّن بشغف لبناني النكهة، يقول: (ولدت كاتباً… فكيف أولد كاتباً، وأنا لا أملك سلطة على وعي الكلمات؟ خطأ ما، سيجعل الخلل في المعرفة فادحاً وصحيحاً في آن واحد، فكيف يكون الخلل فادحاً وصحيحاً؟ أعطوني يديَّ، فأنا أريدهما لتخرجاني من ورطة الأقمطة. هذه الثمار باتت ناضجة وأريد أن أقطف الثمار بيدين طفلتين) ص 109 ها هو مرآته في ذاته، واثقاً بحدسه الشعري، حيث عالمه الخاص والمميز والذي هو خليطاً من الصور: الأنا، ذاكرة لوقائع ماضية لكنها حاضرة وتقيم في الغد أيضاً، القرية، الأهل، الأصدقاء، الحبيبة، الصنوبرة، النبيذ، أجراس الكنائس… ألخ. إن الصفة الخاصة بكل كاتب، هي السبب الأساسي الذي يتحكم بخصائصه اللغويّة والجماليّة والتي مردها إلى فيزيولوجية جماعيّة تؤثّر في نفسه وشعوره. وأيضاً إلى بيئته التي هي ظروف جغرافية، وإلى اللحظة التاريخية التي تكيّف العقليّة الجماعيّة عند نقطة محددة من المحور الزمني.

وأنت تقرأ عقل العويط، تقف متوتراً أمام نصّ لا تهدأ له حركة، ومخيلة لا تشفّ عن قرار، على ما بينها من سردية تخرج النصّ من شاعريّته إلى مكان يقترب من الرواية دون أن يدانيها، ويبتعد عنها بعنجهية شعرية. الدهشة تبقى في حدود الصدمة النفسيّة التي تحمل شحنة انفعالية وأصداء من اللاوعي في اللغة لديه، فتغدو قلق وتجسّد وهروب يقودنا إلى لعبة دائرية: البداية، تتعلّق بمعنى داخل المعنى، أي بالبنية العميقة لنصوصه، والنهاية بغموض داخل فوضى، فلا تكتمل دائرة قوله بدلالاته الظاهرة، إذ تبقى فجوة خفيّة تبقيك على مرمى الاحتمال. لغته ترتدي قناعاً من النّزق الانفعالي المتكرّر، وثمة حوار مطفأ بين الشاعر وقوله يؤكد على حدس أساسي وهو أن اللغة لديه تحتوي من يتكلم بها وتغلفه على طريقة السابح في البحر.

يقول: (أعطوني يدي، فأنا أريدهما لتخرجاني من ورطة الأقمطة) إن دلالة الشعر، القول، الزّمن، المرآة، الغبش، المرأة، الماء والصرخة، تأخذ حيّزاً كبيراً لدى الشاعر. وهذا يقودني إلى ربطٍ على مستوى البنية العميقة بينه وبين الشاعر الفرنسي بودلير في (أزهار الشرّ). فالرّبط بين الجسد والروح، والريف والمدينة عبر علاقة جدلية يتبدّى فيها الأول أي بودلير كتجسيد للشهوة والموت. أما الثاني – عقل العويط – فأستطيع أن أضع مكان الموت (النوم والحرية) كلاهما سقطا في شرك الشهوة، لكن العويط له من الشكيمة المنسوبة لأبيه، أن استطاعت روحه أن تعانق تخوم الحريّة التي هي خيط من ثلج، يتراكض وراء خيط من مطر الربيع، وراء خيط صيف، وراء خيط أصفر، إنها مسبحة الفصول، أي الحياة التي أخذته صوب صرخة أقرب إلى صرخة سان جون بيرس البحرية. بهذا الفرق وصل الشاعر إلى صيغة لكتابته فحاول أن يكتب (وثيقة ولادة) ليعرف أين هو من ذلك. ولأنه عرف، ترك قلبه بين يديه ولسانه في مقامه… فحمل أمانته إلى خزائنه متدثراً بنوم مرير.   كلام أخير: الشعر هو أن يجمعك إلى أحلامك.

الكتابة هي أن تجمع أحلامك عليك. الشعر هو أن يجعلك غير عاقل في ظروف عاقلة. الكتابة هي صيد اللا عقل في عقلك. الشعر أن تنظر إلى الشيء، عندما ينظر إليك. الكتابة أن تنظر إلى شهواتك وهي تمشي بك في خطواتك إلى الشيء. الشعر هو أن لا يفزعك فيه لقىً ولا يروعك فيه نطق. الكتابة هي أن تستطيع النوم في فزعك ولقاك ونطقك.   يقول الشاعر: (ستٌ وخمسون، بل سبعٌ وخمسون، وفي ما بعد، ثمانٍ وخمسون مرآة بيني وبين صرختي الأولى، فمن يُريني الأولى؟ ومن يجمعني بها). ومن غير الشعر الأقدر على فعل ذلك. إن ما فاتنا موثقٌ إلينا برباط مجهول الجوهر ومستحيل الحل إلا بالإبهام الصائب المعايير، أو بالحدس الخاضع لامتحان الزمان، وينبغي لكي يكون هذا المعيار صائباً، أن يختلف الزمن في الشعر عن الزمن في اليقظة، الشعر وحده يجعل ما فاتنا، وما سيجيء، ينزلق برفق قطرة إثر قطرة على مخمله الناري. لكن عقل العويط يريد ذلك عبر صرخة إثر صرخة لفرط حبه من كونه يصرخه لكي لا ينتقص من نوره شيء، والقلق الكونيّ يفترسه، بل إنه نتيجة مباشرة له كشاعر، براءته متوحشة، عالم الطفولة الحسي يغريه فيصنع له وجوهاً جديدة كي يهرب من قدره الآلي، لكن لا مهرب من الوجه إلا في الوجه، ونحن نستطيع أن نهرب من الناس بأن نلجأ إلى أناس آخرين فقط، لكن الشاعر ليس له ملجأ ولا ملاذ من التسكع العظيم على دروب اللغة الوعرة، كأن حاله يقول: (هربت وبين يديّ وجهي). كتابته مزيج من الغنائيّة وقليل من الإنشاديّة والبحث عن المطلق والتوثيقيّة الشعريّة والشموليّة والعدم والخراب والانهدام والنشوة، لغته تهذي بغزارة تقطع الأنفاس، وتترسخ ثمْلى بفيضها وتخمة دلالاتها. يقول: (أنا الخرِبُ المهدومُ الرّائي، كيف لي أن أنتشي بخرابي وانهدامي، قد كنتُ أصرخ لتوّي لأني أُولد لتوّي في المكانِ الخربِ المهدومِ الرّائي. فكيف أصير أنا هذا المكان، وكيف هو يصيرني؟ لا أريد أن أعكِّر مزاج هذا اليوم، فقد بدأ مثلما تبدأ الفجائع الكبرى، يكفي أني قد صرتُ زمن الخراب ومكانه، لكي تنوب الصيرورة عن كلِّ إفصاح) ص 291 لقد جعل صرخته وصراخه كصخرة سيزيف القرن الحادي والعشرين، إنها كنهر جهنمي لا يتوقف عند ضفاف محددة، خصوصاً وأنه يواكب إيقاع معاناته في بحثه عن أفق روحيَّة جديدة، أو عن جذور الحياة الخالدة وراء المظاهر الزائلة.

الشاعر اللبناني عقل العويط في كتابه (وثيقة ولادة) هو تفريغ شحنة بركانية، لم أتمكن من حصر انفجارها، هو في حقيقة الأمر استعارة شعرية للموت نفسه، فالكتابة أروقة تدور حول أروقة التي تدور حول الأروقة، حتى يمكن أن نطلق عليه كتابة اللا نصّ، وما فوق النصّ، والنصّ المضاد، ولكنني أجده أقرب إلى صيغة (البورترية) كما ذكرت في البداية. الحقيقة أنا ضائع في مثولية هذا الكتاب تحت باب نقدي ما. كتابة تنزع إلى لا توازن ظاهري. الولادة المستحيلة، كما الحياة التي هي صرخات وراء صرخات. إنه يفتش عن الضجة في الصمت، والحركة في السكون، واللانهاية في النهاية اللزجة، كما أنه يتذرّع بالروائح التي تهبُّ من ماض قريب وبعيد، لبلورة (أسطورة العودة) ووصف تناقضات الذات في مواجهة الحضور الكلي لزمن لا يعرف السكون ولا المسافة ولا البوصلة. لقد جعل من الزمن مدى رحباً لتجربة الكلام والحنين، والرؤيا التي تمتلك أدوات إبداعها.

أحمد ديبو : شاعر سوري

نقلا عن جدل الآن

اظهر المزيد

نشــــطاء الـرأي

نشــــــــطاء الـــرأي : كيان رمزي وخط إنساني لحرية الإنتقاد الثقافي و الفكري والسياسي ، بدعم مالي مستقل Organization for peace and liberty – OPL : www.opl-now.org

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب
إغلاق
إغلاق